الفصل الرابع
راح
ونستون يُقلّب نظره في زوايا الغرفة الوضيعة الصغيرة الكائنة فوق حانوت السيد
شارنغتون. كان فيها سرير ضخم ينتصب مرتباً بجوار النافذة وعليه أغطية بالية. وكان
فوق المتكأ العلوي للمدفأة ساعة عتيقة من ذات الاثني عشر رقما تسمع دقاتها. وفي
زاوية الغرفة شبه المعتمة كان يومض وعلى نحو ضعيف ثقل الورق الزجاجي الذي اشتراه
في آخر زيارة له إلى ذلك الحانوت.
قرب سياج
المدفأة كان هنالك موقد زيتي من الصفيح أكل الدهر عليه، فضلاً عن إبريق وفنجانين
أمدّه بها السيد شارنغتون. أشعل ونستون شريط الموقد ثم وضع فوقه إبريق الماء
ليغلي، وكان قد أحضر معه عبوة من قهوة النصر وبعض مكعبات السكرين. كانت عقارب
الساعة تشير إلى الخامسة مساء، فيما هي في الواقع السابعة والثلث. أما موعد وصول
جوليا فكان في السابعة والنصف.
راح قلبه
ينبض خوفاً بكلمات: إنها لحماقة! إنها لحماقة، إني أجرجر نفسي متعمداً إلى موت
زؤام مجاني، فالجريمة التي أوشك على ارتكابها هي من الجرائم التي لا يمكن لعضو
الحزب أن يتملّص منها.
لقد
انبجست في ذهنه هذه الفكرة للمرة الأولى وأثارتها في مخيلته رؤيته للثقل الزجاجي
الذي انعكس على سطح الطاولة المطوية. وكما تكهن فإن السيد شارنغتون لم يجد غضاضة
في أن يؤجر الغرفة له، وبدا جلياً أن حفنة الدولارات التي سيدرّها عليه ذلك قد
سرته كثيراً حتى أنه لم يظهر عليه أي أثر لصدمة أو شعور بالتأذي لدى معرفته بأن
ونستون ينوي أن يتخذها ملاذاً لممارسة الحب، بل وعلى النقيض من ذلك راح يتظاهر
بعدم المبالاة وجعل يسترسل في الحديث عن مبادئ عامة وبلهجة لطيفة تعطي انطباعاً
بأنه ليس له وجود بالغرفة. وقال لقد كانت الخصوصية شيئاً ثميناً جداً، فالمرء
يحتاج من وقت لآخر إلى موئل يختلي فيه بنفسه، وأصول اللياقة الاجتماعية تقضي بأن
يحتفظ كل من تناهى إلى معرفته هذا الأمر بالمعلومات لنفسه، بل وبدا وكأنه يتلاشى
نهائياً ويلغي وجوده وهو يضيف قائلاً: «إن للمنزل مدخلين، أحدهما يمر عبر الساحة
الخلفية ويطل على زقاق».
وتحت
النافذة كان هنالك شخص يغني، فاسترق ونستون النظر محتمياً وراء ستار الموسلين،
وكانت شمس حزيران لا تزال في كبد السماء، حيث كان ينظر في الساحة التي غمرتها
الشمس إلى تلك المرأة الضخمة التي جعلها بنيانها المتين أشبه بعمود نورماندي،
فكانت ذات ساعدين مفتولي العضلات حمراوي اللون تلف حول خصرها مئزراً، كما كانت
تروح وتجيء بين وعاء الغسيل والحبل حيث كانت تعلق أشياء صغيرة بيضاء اللون أدرك
ونستون أنها حفاضات أطفال، وكانت كلما انتهت من مشاجب الغسيل التي تحملها بين
شفتيها تنطلق بالغناء بصوت جهوري:
«كان
حلماً مقطوع الرجاء
مر كيوم
من نيسان
ولكن
بنظرة وكلمة وأحلام أثاروها
استُلب
مني فؤادي».
ظلت أصداء
هذه الأغنية تتردد في أنحاء لندن على مدى أسابيع، لقد كانت واحدة من أغنيات مشابهة
لا حصر لها يوجهها أحد فروع قسم الموسيقى إلى العامة، وكانت كلماتها تؤلف دون أي
تدخّل بشري بواسطة جهاز يعرف باسم «الناظم». غير أن المرأة كانت تغنيها بطريقة
بعثت الحياة في كلماتها ما جعل هذه السخافات الكئيبة تتحول إلى أصوات تبعث على
السرور. كان ونستون يسمع المرأة وهي تغني، كما يسمع وقع احتكاك حذائها وهي تجرجره
على أحجار الشارع مختلطاً بصراخ الأطفال في الشارع. كما كان يتناهى إلى السمع هدير
خافت لحركة الشاحنات يأتي من أفق بعيد، ومع ذلك ظل سكون عجيب يخيم على الغرفة،
وربما كان مردّ ذلك عدم وجود شاشة رصد في الغرفة.
وعاد يحدث
نفسه: يا لها من فكرة حمقاء، إنه لمن المستبعد التردد على هذا المكان لأكثر من
بضعة أسابيع بغير افتضاح سترهما. ولكن فكرة أن يمتلكا مكاناً مغلقاً وآمناً وفي
متناولهما كانت تمارس على كليهما إغراء لا يقاوم، إذ تعذّر عليهما لفترة بعد
لقائهما في برج الكنيسة ترتيب لقاءات جديدة، فقد ازدادت ساعات العمل بشكل لا
يُحتمل استعداداً لفعاليات «أسبوع الكراهية». ومع أنه كان لا يزال هناك شهر قبل
حلول هذا الأسبوع فإن الاستعدادات الهائلة والمعقدة التي تسبقه ألقت بمزيد من
الأعباء على كاهل كل شخص. وأخيراً تمكن كل منهما من تدبير نصف يوم عطلة في اليوم
نفسه، وكانا قد اتفقا على أن يعودا إلى مخدعهما في الغاب. وفي المساء الذي سبق
الموعد المضروب التقيا على نحو خاطف في الشارع، وكالمعتاد لم يتطلع ونستون مباشرة
إلى جوليا وهما يسيران وأحدهما في اتجاه الآخر في قلب الزحام، بيد أنه مع ذلك لاحظ
من خلال هذه النظرة الخاطفة أن جوليا أكثر شحوبا من ذي قبل.
وحينما
تبيّن لها أن لا خطر يتهددها إن هي تكلمت، غمغمت تقول: «لقد تم إلغاء الموعد، أقصد
موعد الغد».
أجاب
ونستون: «ماذا؟»
قالت: «لن
أستطيع المجيء بعد ظهر الغد».
قال:
«ولِمَ لا؟»
أجابت:
«للسبب المعتاد نفسه، لقد بدأت الاستعدادات أبكر في هذه المرة».
وتملّك
ونستون غضبٌ عارم. فخلال الشهر الذي مضى كان ثمة تغيير قد طرأ على طبيعة رغبته
إزائها. في أول الأمر كانت مفعمة بالقليل من الشهوة الحقيقية، وكان أول لقاء حب
يضمهما بمثابة عمل صادر عن إرادة لا رغبة. لكن ذلك تغيّر في المرة الثانية، إذ إن
رائحة شعرها وفمها وملمس بشرتها قد تغلغلت في جوانحه وملأت الهواء الذي يحيط به
وأصبحت ضرورة بالنسبة إليه، بل استحالت شيئاً لا يريده فحسب بل يشعر أيضا بأن من
حقه الحصول عليه. ولذلك فعندما قالت إنها لن تستطيع المجيء ساوره شعور بأنها
تخادعه، ولكن في هذه اللحظة ازداد ضغط الزحام فالتقت أيديهما مصادفة، وشعر بها
تضغط على أطراف أصابعه بشكل لا يثير الرغبة بل يحرك العاطفة. وحدثته نفسه أن المرء
حينما يعيش مع امرأة يجب أن يعتبر خيبة الرجاء هذه أمراً عادياً وحدثاً متكرراً،
وهنا شعر بعاطفة مشبوبة إزاءها كما لم يشعر من قبل. ومنّى نفسه لو أنه قد تزوجها
قبل عشر سنوات، ولو أنه كان يستطيع أن يمشي معها في الشوارع كما يفعلان الآن ولكن
علانية ودون خوف، ويتبادلان الحديث حول التفاهات ويشتريان معاً احتياجات بيتهما.
وفوق كل ذلك تمنى لو كان لديهما مكان يختليان فيه معاً دون رقيب او حسيب وبغير أن
يكون لزاماً عليهما أن يمارسا الحب في كل مرة يلتقيان فيها. لم تكن فكرة استئجار
غرفة السيد شارنغتون قد خطرت له في تلك اللحظة، بل حدث ذلك في اليوم التالي، ولم
يكد يعرضها على جوليا حتى قبلتها بسرعة لم يتوقعها. كان كلاهما يعي أن هذا عمل
طائش، إذ كانا كمن يحفران قبريهما بمحض إرادتهما. وبينما كان يجلس على حافة السرير
راح يفكر ثانية في زنزانات وزارة الحب. إنه لأمر غريب أن هذا الفزع المحكوم به على
الإنسان يجتاح وعيه حيناً ويختفي حيناً، فهو يكمن هناك في المستقبل، ويستبق الموت
تماما مثلما يسبق الرقم 99 المائة. فالمرء لا يستطيع تحاشيه وإن كان يستطيع
إرجاءه، ومع ذلك فإن على المرء من حين لآخر أن يختار بمحض إرادته أن يقصّر الفترة
التي تسبق وقوعه.
وفي تلك
اللحظة سمع ونستون وقع أقدام سريعة على السلم اندفعت على أثرها جوليا إلى داخل
الغرفة، وكانت تحمل حقيبة أدوات من قماش خشن بني اللون مثل تلك التي كان يراها
تحملها في أروقة من الوزارة. فنهض وتقدم نحوها ليأخذها بين ذراعيه ولكنها تخلصت
منه بسرعة ربما لأنها كانت لا تزال تحمل الحقيبة.
وقالت:
«لحظة من فضلك، دعني أريك ما أحضرت معي. هل أحضرت معك بن النصر البغيض؟ لا بد أنك
فعلت. يمكنك أن ترمي به بعيدا لأننا لن نحتاج إليه بعد الآن. انظر». ونزلت على
ركبتيها وفتحت الحقيبة وأخرجت ما بها من مفاتيح ربط ومفكات كانت تغطي القسم الأعلى
منها حيث كانت تضع تحتها عبوات ورقية أنيقة. وكانت العبوة الأولى التي ناولتها إلى
ونستون ذات ملمس غريب وغامض بعض الشيء، لقد كانت معبأة بمادة ثقيلة أشبه بالرمل.
قال: «ما
هذا؟ سكر؟»
- إنه سكر
حقيقي لا مكعبات السكرين. وهذا رغيف من الخبز - الخبز الأبيض الرائع، لا الخبز
الكريه الذي يُعطى لنا. وها هي علبة صغيرة من المربى. وإليك بعضاً من الحليب. لكن
انظر هذا هو الشيء الذي أفخر به حقاً، لقد اضطررت للفه بقطعة من الخيش لأنه...
ولم تكن
ثمة حاجة لأن تشرح له لماذا اضطرت للفّ هذا الشيء، فقد كانت رائحته قد ملأت الغرفة
بالفعل وكانت رائحة غنية ودافئة بدت وكأنها انبعاثات آتية من عالم طفولته الأولى:
رائحة لا تصادف المرء في الوقت الراهن إلا حينما تفوح من خلف باب موصد يطل على ممر
أو تنبعث بطريقة ما في شارع مكتظ بالناس حيث يستنشقها المرء للحظة ثم تختفي ثانية.
همس
ونستون بدهشة: «إنه بُن، بُن حقيقي».
- إنه
البن الذي يشربه أعضاء الحزب الداخلي. إليك كيلو كاملاً منها.
- ولكن
كيف تسنى لكِ الحصول على مثل هذه الأشياء؟
- إنها
كلها مواد خاصة بالحزب الداخلي. ليس ثمة ما ينقص هؤلاء الأوغاد، ولكن بطبيعة الحال
يستطيع الخدم والندل أن يسرقوا بعضاً منها خلسة... انظر لقد حصلت على عبوة من
الشاي أيضاً.
جلس
ونستون القرفصاء بجانبها ومزق إحدى عبوات الشاي ثم صاح قائلاً: «إنه شاي حقيقي لا
أوراق شجر العليق».
وقالت
جوليا بغموض: «لقد أصبح لديهم كميات كبيرة منه في الآونة الأخيرة كما لو كانوا قد
احتلوا الهند أو شيئاً من هذا القبيل. والآن أصغ إليّ عزيزي: إني أريدك أن تدير
ظهرك لثلاث دقائق. اذهب واجلس على الجانب الآخر من السرير ولا تقترب من النافذة
ولا تستدر نحوي إلا عندما أطلب منك ذلك».
وراح
ونستون يحدق من خلال ستار الموسلين وهو غائب الذهن، وكان يبدو أن المرأة ذات
الساعدين حمراوي اللون لا زالت تروح وتجيء في الساحة بين وعاء الغسيل وحبل الغسيل.
وأخرجت مشجبي غسيل من فمها وهي تغني بحس عميق:
«يقولون
إن الزمن يداوي كل الجراح
يقولون إن
المرء بوسعه دائماً النسيان
بيد أن
الابتسامات والدموع عبر السنين
ما تزال
حتى الآن تقطع نياط قلبيّ»
كان يبدو
أن المرأة تحفظ جميع مقاطع هذه الأغنية عن ظهر قلب. وأخذ صوتها يسري لأعلى محمولاً
على أجنحة نسيم الصيف العليل وعلى لحن رقيق مفعم بشعور ينم عن سعادة تخالطها
الكآبة. وكان الناظر إليها يخامره شعور بأنها ستكون راضية كل الرضا لو أن أمسية
حزيران هذه قد امتدت بلا نهاية ولو أن ما لديها من ثياب مغسولة لا ينفد حتى تظل
على حالها هذه لألف عام تعلق فيها حفاضات الأطفال وتردد الأغنيات التافهة. وتنبه
إلى أن من غريب الحقائق أنه لم يسبق له أن سمع عضواً من الحزب وهو يغني وحده وبهذه
التلقائية، إذ كان ذلك قمينًا بأن يبدو شكلاً من أشكال عدم الولاء وانحرافاً عن
مبادى الحزب وشذوذاً خطيراً يرقى إلى مستوى كلام المرء إلى نفسه. وربما لم يكن
الناس يبحثون عن شيء للتغني به إلا حينما يصبحون على شفير الموت جوعاً.
مرّت
الدقائق الثلاث، فقالت جوليا: «يمكنك أن تستدير الآن».
استدار
ونستون وللحظة بدا له أنه لا يعرفها. وكان في الحقيقة يتوقع أن يراها عارية، بيد
أنها لم تكن كذلك، فالتحول الذي جرى عليها كان أكثر إثارة للدهشة من التعري. ذلك
أنها كانت قد طلت وجهها بمساحيق الزينة وتلويناتها.
لا بد
أنها قد انسلّت إلى أحد الحوانيت الكائنة في أحياء العامة واشترت لنفسها مجموعة من
أدوات الزينة. كانت شفتاها قد ازدادتا احمراراً ووجنتاها قد توردتا وأنفها قد طاله
شيء من المسحوق، بل وكان هناك أثر لشيء ما تحت عينيها يجعلهما أكثر بريقاً. نعم،
لم يكن قيامها بذلك كله قد تم ببراعة، ولكن مقاييس ونستون أيضاً في مثل هذه الأمور
لم تكن رفيعة، إذ لم يسبق له أن رأى أو حتى تخيل امرأة من الحزب تصبغ وجهها بمساحيق
الزينة. لقد كان التغيير الذي طرأ على مظهرها مثيرا للدهشة، فهي لم تصبح أكثر
جمالاً فحسب بل أيضا، هو الأهم، أكثر أنوثة. وقد زاد من روعة مظهرها هذا شعرها
القصير وزيها الصبياني. وما إن ضمها بين ذراعيه حتى غمرت أنفه رائحة زهور بنفسج
صناعي، وعادت به الذاكرة في الحال إلى العتمة التي كانت تخيم على المطبخ شبه
المعتم سيّئ الذكر وإلى المرأة ذات الفم كالمغارة. ورغم أن عطر جوليا هو نفسه
العطر الذي كانت تستعمله تلك المرأة، لكنه في هذه اللحظة كان ذا أثر مغاير.
وصاح:
«وعطر أيضاً!»
- أجل يا
عزيزي، عطر أيضاً. هل تدري ما أنوي عمله في المرة التالية؟ سوف أجيء بثوب نسائي
حقيقي وألبسه هنا عوضاً عن هذه البنطلونات اللعينة! سوف ألبس أيضاً جورباً حريرياً
وحذاء عالي الكعب. أريد أن أكون في هذه الغرفة امرأة لا رفيقة حزبية.
ثم خلعا
ملابسهما وقذفا بها بعيداً واعتليا السرير الخشبي الضخم. كانت هذه هي المرة الأولى
التي يتجرد فيها من ثيابه كاملة مع جوليا، فحتى تلك اللحظة كان ما يزال يشعر بخجل
شديد من جسمه النحيل الشاحب وتلك الدوالي البارزة في بطتي ساقيه وكذلك البقعة
المشوهة اللون فوق كاحله، ولم يكن فوق السرير أي شراشف سوى تلك البطانية البالية
التي كانت خيوطها قد بليت حتى أصبحت ملساء، وما إن رقدا عليها حتى تملكتهما الدهشة
من ضخامة السرير ومرونة نوابضه. وقالت جوليا: «لا ولب أنه محشو بالبق، لكن ذلك لا
يعنينا في شيء!» لم يعد المرء يرى أسرة مزدوجة هذه الأيام اللهم إلا في بيوت
العامة. لقد نام ونستون في واحد منها في صباه، أما جوليا فلا تتذكر أن فرصة كهذه
أتيحت لها من قبل.
وللتو
راحا في نوم عميق لفترة وجيزة. وعندما استيقظ ونستون كانت عقارب الساعة قد زحفت
حتى قاربت التاسعة مساء، لكنه لم يتحرك لأن جوليا كانت لا تزال نائمة متوسدة
ذراعه. كانت معظم مساحيق زينتها قد انتقلت إلى وجهه فضلا عن الوسادة، لكن ثمة بقعة
خفيفة من اللون الأحمر كانت لا تزال تبرز جمال وجنتيها. وفوق مؤخرة السرير كان
شعاع أصفر من أشعة الشمس الغاربة يسقط فينعكس ضوؤه على موقد النار حيث يغلي الماء
في الإبريق. أما في الأسفل، في الساحة، فكانت المرأة قد كفت عن الغناء، إلا أن
صياح الأطفال في الشارع كان يتناهى إلى مسامعه عبر النافذة. وأخذ ونستون يتساءل في
غموض عما إذا كان أمراً طبيعياً في ماضي الأيام الغابرة أن ينام معاً، في سرير مثل
هذا ووسط الجو المنعش لأمسية صيفية كهذه، رجل وامرأة وهما متجردين من كل ثياب،
يمارسان الحب متى شاءا ذلك ويتبادلان الحديث متى شاءا، ودون أن يشعرا بأن ثمة ما
يضطرهما إلى مغادرة فراشهما. هل كان أمراً عادياً أن يضطجعا بكل بساطة لا يشغلهما
إلا الإصغاء إلى الأصوات الهادئة الآتية من الخارج؟ لا ريب أن شيئاً من ذلك لم يكن
عادياً في يوم من الأيام. وهنا استيقظت جوليا وفركت عينيها ثم رفعت نفسها متكئة
على مرفقها ونظرت إلى الموقد الزيتي.
وقالت:
«لقد تبخر نصف الماء، سأنهض وأعدّ بعض القهوة خلال لحظة. أمامنا ساعة بعد. في أي
ساعة يقطعون الكهرباء عن شققكم؟»
- في
الحادية عشرة والنصف مساء.
- إنهم في
نزلنا يقطعونه في الحادية عشرة مساء، ولكن علينا أن نكون هناك قبل ذلك لأن... آه
ما هذا؟ اخرج أيها الوحش القذر!
وألقت
ببعض جسمها فجأة من فوق السرير حيث التقطت حذاء من على الأرض وقذفت به بحركة
صبيانية نحو زاوية من زوايا الغرفة، تماماً كما رآها تلقي بالقاموس في وجه
غولدشتاين في ذلك الصباح أثناء «دقيقتي الكراهية».
سألها
بدهشة: «ما هذا؟»
- إنه جرذ
رأيته يمد أنفه اللعين من ثقب في الغطاء الخشبي. لقد أخفته على أي حال.
- فغمغم
ونستون: «جرذان! حتى في هذه الغرفة!»
فقالت
جوليا غير آبهة وهي تعاود الاضطجاع:
- إنها موجودة
في كل مكان. حتى في مطبخ نزلنا، كما أن بعض المناطق في لندن تغص بها غصاً. هل تعلم
أنها تهاجم الأطفال؟ نعم إنها تفعل. وفي بعض الشوارع لا تجرؤ أم على ترك طفلها
بمفرده لدقيقتين. إن الجرذان الضخمة بنية اللون هي التي تهاجم، وأقبح ما يفعله هذا
النوع من الجرذان هو أنها دائماً...
فقاطعها
ونستون مغمضاً عينيه تماماً: «كفاك حديثاً في هذا الموضوع».
- ما بالك
يا حبيبي، لقد شحب لونك. ما الأمر؟ هل تصيبك رؤيتها بالغثيان؟
- إن أكثر
ما يرعبني في هذا العالم هو الجرذان.
فضمّته
إلى جسدها وأحاطته بأطرافها كأنما أرادت أن تبث فيه الطمأنينة بدفء جسدها. لكنه لم
يفتح عينيه مرة أخرى مباشرة، فقد مرت به لحظات تملّكه خلالها شعور بأن ذلك الكابوس
الذي كان لا يفتأ ينتابه من حين لأخر طوال حياته قد عاوده من جديد. لقد كان دائماً
الكابوس نفسه الذي يرى فيه نفسه واقفاً أمام جدار من الظلام وعلى الجانب الآخر كان
ثمة شيء لا يمكن احتماله، إنه شيء كريه على النفس لا يمكن للمرء مواجهته. وفي ذلك
الحلم الكابوس كان ما يستحوذ عليه هو شعوره بأنه يخادع ذاته، لأنه في واقع الأمر
كان يعلم ما وراء هذا الجدار، وبجهد جهيد، وكأنما ينتزع قطعة من مخه، كان يمكنه أن
يخرج هذا الشيء إلى النور. بيد أنه كان دائماً يستيقظ دون أن يكتنه هوية ذلك
الشيء: رغم أنه كان يبدو وكأن رابطاً ما يربطه بما كانت جوليا تتحدث عنه حينما
قاطعها.
- إنني
آسف، لا شيء، كل ما في الأمر هو أنني لا أحب الجرذان.
- هدئ من
روعك حبيبي، فلن نبقي على هذه الحيوانات اللعينة هنا، سأحشو هذا الثقب بقطعة من
الخيش قبل أن ننصرف، وفي المرة التالية عند قدومنا سأحضر معي بعض الاسمنت وأسده
على نحو مضمون. كانت نوبة الفزع التي انتابت ونستون قد أخذت في الزوال. ولشعوره
بالخجل من نفسه جلس متكئاً على مقدمة السرير، في حين كانت جوليا قد نهضت وارتدت
زيها الرسمي وأعدّت القهوة. كانت الرائحة المتصاعدة من الغلاية قوية ونفاذة حتى
أنهما أوصدا النافذة خشية تسربها إلى الخارج لئلا تلفت الأنظار وتصبح الغرفة مثارا
للشكوك. ولم يكن ثمة ما هو ألذ مذاقا من القهوة إلا ذلك الطعم حريري الملمس الذي أكسبها
إياه السكر، الذي كاد ونستون ينساه بعد أن ظل لسنوات لا يستعمل إلا السكرين. أما
جوليا فقد أخذت تتجول في الغرفة وقد دسّت إحدى يديها في جيبها فيما الأخرى تمسك
بقطعة خبز بالمربى وهي تتطلع بلا مبالاة إلى رف الكتب في محاولة لاستكشاف أفضل
الطرق لإصلاح قوائم الطاولة المطوية، ثم ألقت بنفسها فوق المقعد البالي ذي
المسندين لترى ما إذا كان مريحاً أم لا؟ ثم مضت تتفحص الساعة ذات الاثني عشر رقماً
عتيقة الطراز بارتياح من يتسلى بشيء، ثم حملت الثقل الزجاجي إلى السرير لتمعن
النظر فيه. ولكنه أخذها من يدها مأخوذاً كالعادة بمنظر الزجاج الناعم الذي يشبه
ماء المطر.
فسألته
جوليا: «ماذا تظن هذا يا ترى؟»
- لا أظن
أنها شيء مهم، أقصد أنه لم يسبق لها أن كانت ذات فائدة في يوم من الأيام. وهذا هو
ما أحبه فيها. إنها أثر من الماضي فاتهم أن يمحوه. إنها رسالة يعود تاريخها إلى
مئة عام، هذا إن استطاع المرء أن يقرأها.
وأومأت
جوليا صوب الصورة ذات القضبان المحفورة والمعلقة فوق الحائط قائلة: «وماذا عن هذه
الصورة؟ هل يمكن أن يكون عمرها مئة عام؟»
أجاب
ونستون: «أكثر من ذلك، ربما مئتي عام. لكن هذا ما لا يستطيع أحد أن يجزم فيه، فقد
بات من المستحيل على المرء أن يحدد عمر أي شيء في هذه الأيام».
ودنت
جوليا من الصورة لتمعن النظر فيها ثم قالت وهي تركل الغطاء الخشبي للحائط أسفل
الصورة مباشرة: «ها هو الثقب الذي أطل الجرذ اللعين بأنفه منه. ما هذا المكان؟
أذكر أنني رأيته قبل ذلك».
قال
ونستون: «إنها كنيسة، أو على الأقل كانت كنيسة القديس سانت كليمنت دان».
وحينئذ
كانت أصداء مقطع الأغنية التي لقنه إياها السيد شارنغتون قد عاد يتردد في ذاكرته
وأضاف بلهجة مفعمة بالحنين إلى الماضي:
«برتقال
وليمون، تقول أجراس سانت كليمنت!»
ولدهشته
أكملت جوليا المقطع بما يلي:
«إنك مدين
لي بثلاث فارذنج، تقول أجراس سانت مارتن، فمتى ستدفعيها؟ تقول أجراس أولد
بايلي...»
وأضافت
تقول: «لست أذكر ماذا تقول الأغنية بعد ذلك. ولكني أذكر أنها تنتهي على النحو
الآتي: ها هي شمعة تستضيء بها إلى فراشك، وها هو سيف لحزّ رقبتك».
كان الأمر
أشبه بمقطعين تتألف منهما كلمة سر، ولكن كان لا بد أن يكون ثمة شطر آخر بعد «أجراس
أولد بايلي»، ربما يمكن انتزاعه من ذاكرة السيد شارنغتون إذا أمكن تذكيره به على
نحو مناسب.
سألها:
«لكن من علمك هذا؟»
- إنه
جَدّي، لقد اعتاد أن يرددها لي وأنا بعد فتاة صغيرة. لقد تبخر عندما كنت في الثامنة
أو اختفى على أي حال. وأضافت بشكل غير متجانس: ترى ماذا كان شكل الليمونة؟ لقد
رأيت البرتقال، إنه فاكهة مستديرة صفراء اللون ذات قشرة سميكة.
قال
ونستون: «أنا أستطيع تذكر الليمون، لقد كان شائع الانتشار في الخمسينات وكان شديد
الحموضة إلى حد يجعلك تصرين صريراً على
أسنانك
بمجرد أن تتذوّقيه».
قالت
جوليا: «أراهن أن هذه الصورة تؤوي بقّاً خلفها. سوف أنزلها من مكانها وأنظفها
جيداً في يوم من الأيام. أظن أن وقت انصرافنا قد حان. يجب أن أبدأ في إزالة هذه
الزينة عن وجهي، يا له من عمل مزعج. وسوف أزيل أحمر الشفاه عن وجهك فيما بعد».
ولم ينهض
ونستون رغم مرور بضع دقائق أخرى. كان الظلام قد بدأ يسدل ستاره على الغرفة،
فاستدار ناحية انبعاث الضوء وراح يحدق في الثقل الزجاجي. وما كان يثير لديه دهشة
لا تنقطع ليس قطعة المرجان بل لب الزجاج الذي يحيط بها والذي كان يبدو شفافاً
كالهواء رغم عمقه السحيق. وبدا كما لو أن سطح الزجاج قوساً سماوياً يضم عالماً
صغيرًا بكل أجوائه. وانتابه شعور بأنه يمكنه أن يدلف إلى هذا العالم، بل إنه في
الواقع موجود بداخله مع السرير الخشبي والطاولة المطوية والساعة والقضبان المحفورة
والثقل الزجاجي ذاته. فالثقل بمثابة الغرفة التي تحتويه وقطعة المرجان هي حياة
جوليا وحياته وهما مثبتتين بنوع من الروابط الأبدية في قلب البلور ذاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق