السبت، 27 مايو 2017

الجزء الأول - الفصل 1

الفصل الأول


 

كان يوماً بارداً من أيام نيسان بسمائه الصافية، وكانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد الظهر، عندما كان ونستون سميث، بذقنه المنكفئة على صدره اتقاءً لريح بارد ينسل مسرعاً عبر الأبواب الزجاجية لمبنى النصْر، ولم يحل اندفاعه السريع دون دخول دوامة من الريح المحملة بذرات الغبار.
كان الممر الذي يحذاه عابقًا بروائح الملفوف المسلوق والفرش المهترئ وعند نهاية هذا الممر عُلّقت صورة ملونة وذات حجم كبير لا يتناسب مع مثل ذاك الممر الضيق، وكانت تمثّل وجهاً ضخماً يربو عرضه على المتر، وهو وجه رجل في الخمسة الأربعين، ذو قسمات جميلة وإن كانت لا تخلو من خشونة وصرامة، ويبرز فيه شاربان أسودان كثّان. مشى ونستون باتجاه السلالم للصعود، فالمصعد نادراً ما كان يعمل، إما بسبب عطل وإما لانقطاع التيار الكهربائي معظم ساعات النهار، انسجاماً مع خطة توفير الطاقة استعداداً لفعاليات «أسبوع الكراهية». كانت الشقة التي يقصدها ونستون في الطابق السابع وكان عليه أن يصعد سلماً طويلاً، ولأنه في التاسعة والثلاثين من عمره ويشكو من دوالي فوق كاحله الأيمن، فقد راح يرتقي درجات السلم بخطى وئيدة متوقفاً للاستراحة عدة مرات. وعند كل منعطف من منعطفات السلم السبعة، وعند كل محطة من محطات المصعد وبمواجهة الباب، كانت تنتصب صورة الوجه الضخم لتحدق في وجه كل قادم. إنها واحدة من تلك الصور المرسومة على نحو يجعل المرء يعتقد أن العينين تلاحقانه أينما تحرك. وكان يوجد أسفل تلك الصورة عبارة بارزة تقول: «الأخ الكبير يراقبك».
عندما دخل ونستون إلى الشقة سمع صوتاً يسرد قائمة أرقام تتعلق بإنتاج الحديد الخام، وكان الصوت ينبعث من لوحة معدنية مستطيلة الشكل تشبه مرآة معتمة معلّقة على الحائط الأيمن. أدار ونستون مفتاحاً فخفتت حدة الصوت قليلاً وإن ظل الكلام واضحاً كان بمقدور ونستون تخفيض صوت هذا الجهاز والذي كان يسمى «شاشة الرص»، ولكن لم يكن بوسعه إيقاف تشغيله بشكل تام. انتقل ونستون نحو النافذة بجسمه النحيل الضئيل الذي زاد من ضآلته الزي الأزرق، وهو لباس الحزب، وكان شعره مائلاً للشقرة ووجهه شديد الاحمرار، أمّا بشرته فكانت مخشوشنة من أثر الصابون الرديء وشفرات الحلاقة غير الحادة وبرودة فصل الشتاء الذي كان قد شارف على نهايته.
وعلى الرغم من أن زجاج النافذة كان موصداً، فقد كان الجو خارجها يبدو بارداً، وفي الشارع كانت زوابع الرياح تثير الغبار والأوراق الممزقة فتتصاعد لأعلى في أشكال حلزونية. ورغم أن الشمس كانت ساطعة والسماء داكنة الزرقة فقد بدا كما لو أن كل الأشياء قد طمس لونها، ما خلا تلك الصور التي كانت معلقة في كل مكان. فمن كل زاوية كلان ذلك الوجه ذو الشارب الأسود يطل محدقاً في وجه المارة. وعلى واجهة المنزل المقابل كانت تنتصب واحدة من تلك الصور المكتوب تحتها بأحرف بارزة عبارة «الأخ الكبير يراقبك»، وكانت العينان السوداوان تنفذان إلى أعماق ونستون. وفي الشارع كان ثمة ملصق آخر ممزق من إحدى زواياه وتظهر عليه تارة وتنحسر تارة أخرى عبارة إنجسوك (الاشتراكية الإنجليزية)، وذلك بحسب هبات الرياح. وفي الأفق البعيد كانت تُحوم طوافة بين السطوح تقترب تارة وتبتعد تارة فتبدو أشبه بخنفساء زرقاء، ثم تنطلق منعطفة في مسار آخر. ولم تكن هذه الطوافة غير دورية شرطة تتلصص على الناس عبر النوافذ، غير أن الطوافة لم تكن ترهب الناس كما ترهبهم شرطة الفكر.
كان الصوت المنبعث من شاشة الرصد ما يزال يكرر إحصائيات إنتاج الحديد الخام ويعيد نبأ تحقق أهداف الخطة الثلاثية التاسعة. وكان الجهاز يرسل ويستقبل في آن واحد، فبإمكانه التقاط كل صوت، يصدر عن ونستون، يتجاوز حد الهمسات الخافتة، فضلاً عن أنه يبقى مراقباً بالصوت والصورة ما دام موجوداً في مدى رؤية هذه الشاشة المعدنية. ولم يكن هنالك بالطبع من طريقة لمعرفة ما إذا كنت في مرمى المراقبة أم لا في أية لحظة. أما كم مرة أو كيف يمكن أن تخترق شرطة الفكر حياتك الخاصة فهذا أمر لا يمكن التنبؤ به، وإن كان من المفروض أنها ترصد الناس جميعاً بلا انقطاع، إذ باستطاعة هذه الشرطة أن تدخل، متى شاءت، على خط أيّ كان. كان عليك أن تعيش، بحكم العادة التي تحولت إلى غريزة، مفترضاً أن كل صوت يصدر عنك مسموع وأن كل حركة مرصودة.
وقف ونستون مديراً ظهره لشاشة الرصد، فقد كان يظن أن هذا أسلم عاقبة بالرغم من أن أمر المرء يمكن أن ينكشف من ظهره أيضاً. وكان مركز عمله يبعد مسافة كيلومتر واحد عن وزارة الحقيقة، التي يرتفع مبناها ذو اللون الأبيض وسط منظر طبيعي كالح. وفكر ونستون وفي نفسه شيء من التقزز والامتعاض، «أهذه هي لندن المدينة الرئيسية في القطاع الجوي رقم واحد؟ وثالث أكبر مقاطعات أوقيانيا سكاناً». لقد حاول جاهداً أن يسترجع بعضاً من ذكريات الطفولة محاولاً أن يتبيّن ما إذا كانت هذه هي صورة لندن في كل الأوقات؟ أتراها كانت بمثل هذه الطرقات المزدحمة والمنازل المتهالكة؟ أكانت على هذه الحال في القرن التاسع عشر، حيث تظهر على جوانبها دعائم من الخشب، ونوافذها مرقعة بقطع من الكرتون وسقوفها من صفائح الحديد المطعّج، وأسوار حدائقها مهدّمة ونافرة في كل الاتجاهات؟ أكانت موجودة تلك الأماكن التي أحدث القصف فيها حفراً كبيرة تعبق بالغبار، وتبدو للعين أوراق الصفصاف مختلطة بأكوام النفايات، وقد ظهرت هناك مجموعة من الأكواخ الخشبية أشبه بأقفاص الدجاج؟ ولكن عبثاً حاول، فلم يكن باستطاعته أن يتذكر شيئاً عن ذلك الماضي: إذ لم يبق له من ذكريات الطفولة إلا صور غير واضحة المعالم.
كانت وزارة الحقيقة - مينيترو في اللغة الجديدة - تختلف اختلافاً بيّناً في مظهرها عن أي بناء آخر تقع عليه العين، فهي بناء هرمي ضخم من الأسمنت الأبيض اللامع، يرتفع عالياً يناطح السحاب، طبقة فوق طبقة، ثلاثمائة متر في السماء، ومن مكانه، كان باستطاعة ونستون أن يقرأ على الحائط الأبيض كتابة ذات أحرف كبيرة بارزة، هي شعار الحزب المؤلف من جمل ثلاث:
الحرب هي السلام.
الحرية هي العبودية.
الجهل هو القوة.
كانت وزارة الحقيقة تتألف، حسبما يقال، من ثلاثة آلاف غرفة فوق الأرض، فضلاً عن أقبية تابعة لها تحت الأرض. ولم يكن في لندن سوى ثلاث بنايات شبيهة بها من حيث المظهر والحجم، وهذه البنايات كانت تحجب ما حولها من منازل، ولذا كان من الممكن لمن يقف فوق سطح مبنى النصر أن يرى البنايات الأربع في آن واحد. وكان يشغل هذه البنايات أربع وزارات تشكل الجهاز الحكومي، فوزارة الحقيقة تختص بشؤون الأخبار ووسائل اللهو والاحتفالات والتعليم والفنون الجميلة، ثم وزارة السلام التي تُعنى بشؤون الحروب، ثم وزارة الحب وهي المسؤولة عن حفظ النظام وتطبيق القانون، ثم أخيراً وزارة الوفرة وهي ترعى الشؤون الاقتصادية.
كانت وزارة الحب في الواقع مصدرا للرعب والخوف، فهي بناء بدون نوافذ على الإطلاق. لم يسبق لونستون أن دخل هذه الوزارة، بل لم يحدث أن اقترب منها حتى مسافة نصف الكيلومتر، إذ كان لا يسمح بدخولها إلا في مهمّة رسمية، وحتى هذا الدخول يكون عبر سياج من الأسلاك الشائكة والأبواب الحديدية مروراً بمرابض للمدافع والرشاشات المخيفة، كما أن الطرقات المؤدية إلى المبنى كانت دائماً مراقبة من قبل حرس ذوي وجوه كالحة يرتدون بزات سوداء ويحملون الهراوات المدببة.
استدار ونستون بعد أن رسم علامات التفاؤل التام على وجهه، وهو ما كان يُستحسن فعله عندما يواجه المرء شاشة الرصد، واجتاز الغرفة إلى المطبخ الصغير، إذ فاته تناول طعام الغداء في المطعم بسبب تأخره في الوزارة. وكان يعلم أن المنزل خالي من الطعام إلا من قطعة خبز سوداء كان تركها لتكون إفطاراً له في صباح الغد. تناول عن أحد الرفوف زجاجة تحتوي على سائل لا لون له وقد ألصق على الزجاجة ورقة كتب عليها «جن النصر». وكانت تنبعث من هذا الشراب رائحة مُمرضة أشبه برائحة الزيت كأنما هو كحول مستخرج من الأرز الصيني. ومع ذلك صبّ ونستون لنفسه بعضاً منه في كوب شاي ثم استجمع قواه وتجرّعه كما لو كان يتجرع دواء.
وفي الحال انقلب وجهه قرمزياً وسالت الدموع من عينيه، فقد كان الشراب شبيهاً بحامض الصوديوم، فضلاً عن أنه عندما ابتلعه شعر كما لو أنه ضرب على مؤخرة رأسه بهراوة من المطاط. لكن بعد لحظات كانت حدة الألم الذي شعر به في جوفه قد خفت، وأخذ الشعور بالراحة والانشراح يسري في جسده، وعندئذ مد يده إلى علبة السجائر وهي أيضاً تحمل اسم «سجائر النصر» واستل منها سيجارة، وما كاد يرفعها من العلبة حتى راح ما فيها من تبغ يتناثر على الأرض، فاستبدلها بأخرى كانت أحسن حالاً. ثم عاد إلى الغرفة فجلس إلى طاولة صغيرة كانت إلى يسار شاشة الرصد وفتح درجاً كان بها فأخرج ماسكة قلم ومحبرة ودفتراً صغيراً ذا ورق سميك وخلفية حمراء وغلاف رخامي اللون.
ولسبب ما، كان الجهاز في غرفة الجلوس موضوعاً في مكان غير اعتيادي، فبدلاً من أن يوضع، كما جرت العادة، عند نهاية الجدار حيث يستطيع كشف الغرفة كلها، وُضعَ الجهاز في الجدار الأطول مقابل النافذة، الذي كان في جانب منه تقعُّر خفيف جلس فيه ونستون. ولعل هذا التقعّر قد قُصد به أن يكون مكاناً لخزانة الكتب. وهكذا بجلوسه في ذلك المكان وظهره مُسندٌ إلى الوراء، كان ونستون خارج مدى رؤية شاشة الرصد، مع أن الجهاز كان باستطاعته التقاط ما يصدر عن ونستون من أصوات. وقد كان تصميم الغرفة وجغرافيتها هو الذي أوحى له وألهمه جزئياً بذلك العمل الذي كان ينوي القيام به في تلك اللحظة.
ولكن هذا الإيحاء كان مصدره أيضاً ذاك الدفتر الذي أخرجه من درج المنضدة وقد كان دفتراً جميلاً للغاية، إذ كان ورقه الناعم ذو اللون الأبيض، والذي أكسبه القِدم شيئاً من الاصفرار، من نوع تم التوقف عن إنتاجه منذ أربعين عاماً على أقل تقدير، ومع ذلك كان بالإمكان التكهن بأن الدفتر أقدم من ذلك. وكان قد عثر عليه معروضاً في واجهة حانوت خردوات صغير في حي من الأحياء الفقيرة (لا يتذكر اسمه أو موقعه)، وما إن وقعت عليه عيناه حتى تملكته رغبة عارمة في امتلاكه. ورغم أنه لم يكن مسموحاً لأعضاء الحزب بالتردد على مثل هذه الحوانيت العادية الكائنة في الأسواق الحرة، كما كانت تسمى، فلم يكن هذا القانون يطبق بصرامة، لأنه كانت هنالك أشياء كثيرة، مثل أربطة الأحذية وشفرات الحلاقة، يتعذر على المرء الحصول عليها بغير هذه الطريقة. وكان ونستون وهو في طريقه إلى هذا الحانوت يتلفت ذات اليمين وذات الشمال وهو يتوجس خيفة، بل ولم يدلف إليه حتى اطمأن إلى أن أحداً لا يراقبه، ثم اشترى الدفتر بدولارين ونصف الدولار، دون أن يكون لديه هدف محدد من وراء شرائه، وتأبط الدفتر مخفياً إياه بعناية وحمله إلى منزله كمن يحمل إثماً، إذ كانت مجرد حيازة مثل هذا الشيء مدعاة للشبهة حتى لو كان خلواً من أي كتابات.
والفكرة التي راودته حينذاك هي أن يستعمله كمفكرة، ولم يكن في ذلك ما يخالف القانون (ليس لأن ذلك مسموح به بل لأنه لم يكن هناك قانون في الأصل يحدّد ما هي المخالفات). ومع ذلك إذا ما افتضح أمره فإنه كان حتماً سيعاقب بالإعدام أو السجن لخمس وعشرين سنة في معتقل من معتقلات الأشغال الشاقة. وضع ونستون ريشة في ماسكة القلم ثم مصّها قليلاً ليخلّصها مما علق بها. كان القلم أداة زخرفية قديمة نادرا ما استعمله حتى في التوقيع. لقد حصل عليه بشكل سري وبصعوبة بالغة إذ كان يشعر أن ورقاً ناعماً أبيض اللون مثل هذا الورق يجب أن يكتب عليه بريشة حقيقية لا أن يخربش عليه بقلم جف مداده. كان ونستون في الواقع غير معتاد على الكتابة باليد إلا في حال تدوين بعض الملاحظات القليلة، لقد كان معتاداً على أن يملي كل شيء على «الآلة الكاتبة الناطقة»، وهذه بالطبع كان من غير الممكن أن يسجل عليها ما يروم تسجيله في مفكرته. ثبّت الريشة ثم غمسها في المحبرة، وبدا كما لو كان متردداً في أمر ما لبرهة واحدة، وسرت القشعريرة في أوصاله، فمجرد أن يخط بيده على الورقة كان يمثل له قراراً حاسماً وخطيراً، وكتب بأحرف صغيرة غير مقروءة جيداً على صدر الصفحة: 4 نيسان 1984.
ثم اعتدل في جلسته، وقد تملّكه شعور بالعجز التام. فقبل كل شيء لم يكن متأكداً أن العام كان 1984، فقد يكون الزمان قريباً من ذلك التاريخ، لأنه كان متأكداً أن عمره لم يتجاوز التاسعة والثلاثين، وكان يعتقد أنه من مواليد 1944 أو 1945، ومع ذلك كان من المستحيل في هذه الأيام تحديد أي تاريخ مضى عليه سنة أو سنتان.
بعد ذاك راح يتساءل: لمن يكتب هذه المذكرات؟ أيكتبها للمستقبل؟ أم للأجيال القادمة؟ وأطرق للحظة وهو يفكر في هذا التاريخ المشكوك في صحته والذي دوّنه في صدر الصفحة الأولى، وسرعان ما امتدت يده ليتناول قاموس اللغة الجديدة وبحث باهتمام عن كلمة «التفكير المزدوج»، فلأول مرة يستشعر خطورة ما أقدم أو ما هو مقدم عليه، وتساءل في نفسه كيف يمكن أن يتسنى له الاتصال بالمستقبل؟ إن مثل هذا العمل مستحيل في حدّ ذاته، إذ إن المستقبل إما أن يكون شبيهاً بالحاضر وبالتالي لن يتجاوب معه، أو مغايراً له وحينئذ لن يكون لتكهناته التي يعيش من أجلها أي معنى.
مضت لحظات وهو يحدق في الورقة التي أمامه ببلادة. وكانت شاشة الرصد قد انتقلت لإذاعة موسيقى عسكرية صاخبة، وقد تولاه الفزع ليس لأنه فقد القدرة على التعبير عما تجيش به نفسه فحسب، بل لأنه نسي كلياً ما كان يحيك في صدره ويهيّئ له نفسه منذ أسابيع. لقد كان يظن أنه لن يحتاج إلى شيء آخر غير الشجاعة والإرادة، إذ الكتابة أمر يسير ولا تحتاج إلى كثير عناء، وما عليه إلا أن ينقل ما كان يجول بخاطره لسنوات من حوارات طويلة مع النفس إلى الورق، تلك الحوارات التي كانت تعتمل في رأسه وتسبب له القلق وعدم الارتياح. بيد أنه في هذه اللحظة بدا له كما لو أن ينابيع هذه الأفكار قد جفت، بل لقد بدأ يشعر بألم الدوالي في ساقه اليمنى، ولم يجرؤ على حكها خوفاً من أن تلتهب كالسابق. كانت الثواني تمضي بسرعة، ولكنه لم يكن يعي من حوله غير الصفحة البيضاء التي أمامه، والألم الذي في كاحله، وصوت الموسيقى الصاخبة وشعور خفيف بالدوار بتأثير شراب الجن.
وفجأة وجد نفسه يكتب، وقد تملكته حالة من الرعب. لم يكن يدرك تماماً ما كان يفعله. كان خط يده الشبيه بخط الأطفال يميل في تعرجات إلى أعلى وإلى أسفل وقد انفصلت الأحرف الأولى والنقط وعلامات الوقف عن الكلمات، وقد كتب ما يلي:
«الرابع من نيسان 1984، ذهبت إلى إحدى دور السينما وكانت جميع الأفلام التي تعرض أفلاماً حربية، وكان الفيلم الذي يلقى إقبالاً هو ذلك الذي في مشهد منه سفينة ضخمة تتعرض وهي محملة باللاجئين لقصف بالقنابل في مكان ما من البحر الأبيض المتوسط، وقد سُرَّ المتفرجون بمنظر رجل ضخم يحاول النجاة بنفسه ويبتعد عن السفينة الغارقة فيما تلاحقه إحدى الطوافات. في بادئ الأمر بدا وكأنه سلحفاة تسبح في الماء بصعوبة، إلى أن أمطره رماة الطوافة بطلقات ملأت جسمه بالثقوب فاصطبغ البحر من حوله بالأحمر القاني، ثم غرق فجأة كما لو أن المياه قد تسربت داخله عبر الثقوب، وانفجر المشاهدون ضحكاً عندما كانت المياه تبتلعه. ثم رأيت قارب نجاة محملاً بالأطفال وتلاحقه طوافة، وقد جلست في مقدمة المركب امرأة في أواسط عمرها، ربما تكون يهودية، وكانت تحتضن طفلاً في الثالثة من عمره وهو يصرخ خوفاً وهلعاً بينما يدسّ رأسه بين ثدييها، وكأنه يريد أن ينفذ إلى داخلها، والمرأة تحيطه بذراعيها وتلاطفه رغم أنها كانت هي الأخرى ترتعد خوفاً ورعباً. لقد كانت تحاول طوال الوقت أن تحتضن جسده لعل ذراعاها تدرآن عنه طلقات مدافع الطائرة. في هذه اللحظة ألقت الطوافة قذيفة زنة 20 كيلوغراماً على القارب فغرق بمن فيه ولم يظهر منه غير ذراع طفل تطاير إلى أعلى في الهواء، وقد بدا أن الطوافة تحمل آلة تصوير في مقدمتها تبعت الذراع إلى أعلى، وهنا علا التصفيق من مقاعد رجال الحزب، غير أن امرأة من النساء الجالسات في مقاعد العمال أخذت تضرب الأرض برجليها وهي تصرخ: «لا يجوز عرض هذه المشاهد بحضور الأطفال»، واستمرت في ذلك حتى تدخل رجال الشرطة وأخرجوها من القاعة. ولا أظن أن مكروهاً قد أصابها بسبب ذلك فليس ثمة من يأبه لما يقوله الفقراء».
هنا توقف ونستون عن الكتابة، وأغلب الظن أنه كان يتألم من الدوالي ولم يكن يدري ما الذي جعله يكتب مثل هذا السيل من الهراء. غير أن الشيء الغريب هو أنه بينما كان يقوم بذلك، إذا بحادثة تلمع بجلاء ووضوح في ذاكرته، إلى حد أنه انكبّ على كتابتها بلا تردّد، وقد كانت تلك الواقعة كما تبين له هي التي دفعته لأن يسرع إلى المنزل ويشرع في تسجيل مذكراته في هذا اليوم.
لقد حدثت تلك الواقعة في صباح ذلك اليوم حينما كان موجوداً بالوزارة، إذا صح أن أمراً غامضاً كهذا يمكن أن يحدث.
كانت الساعة قد قاربت الحادية عشرة، وفي دائرة السجلات حيث يعمل ونستون كان الموظفون يجرّون المقاعد من مكاتبهم ويصفونها في وسط القاعة المواجهة لشاشة الرصد استعداداً لبدء فعاليات «دقيقتي الكراهية». كان ونستون قد اتخذ مقعداً له في الوسط عندما دلف إلى القاعة شخصان يعرفهما من بعيد وإن لم يسبق له أن تكلم مع أيهما من قبل. لم يكن ثمة أحد ينتظر قدومهما، أحدهما فتاة طالما التقاها في الممرات، لم يكن يعرف اسمها، ولكنه كان يعرف أنها كانت تعمل في دائرة الإثارة، لأنه طالما رأى يديها ملطختين بالزيت وتحمل مفك براغي أحياناً. إنها من اللواتي يعملن في قسم الميكانيك على إحدى الآلات الخاصة بطباعة الروايات. كانت فتاة جريئة الطلة وفي السابعة والعشرين من العمر، شعرها كثيف ووجهها فيه نمش وحركاتها السريعة تنم عن جسم رياضي. كانت تتمنطق بحزام قرمزي يحمل شارة رابطة الشبيبة المناهضين للجنس، وكان الحزام ملفوفاً عدة لفات حول خصرها بشكل يبرز خطوط الكفلين. وقد نفر منها ونستون من أول نظرة، وكان سبب ذلك معرفته بالأجواء التي تحيط بمن مثلها، أجواء ملاعب الهوكي، وحمامات الماء البارد، والرحلات الجماعية، وتلك عقيدة العفّة التي كانت تعتنقها. لقد كان يمقت كل النساء تقريباً وعلى الأخص الشابات الجميلات منهن، فقد كن أكثر أعضاء الحزب إخلاصاً وتمسكاً بمبادئه، فمنهن الجاسوسات اللواتي يتلصصن على الناس ويحشرن أنوفهن بكل صغيرة وكبيرة بحثاً عن أي مظهر من مظاهر الانحراف عن مبادى الحزب. ولكن هذه الفتاة، بصورة خاصة، كانت تبدو أخطرهن. ففي إحدى المناسبات عندما التقاها مصادفة في الممر رمقته بنظرة جانبية وحادة، شعر على إثرها كما لو كانت قد اخترقت قلبه وملأته رعباً، وقد خطر له أنها ربما تكون عميلة من عميلات شرطة الفكر. ومع أن ذلك الظن كان بعيد الاحتمال، فإنه ظل يشعر بعدم الارتياح الممزوج بالخوف وبعدائية إزائها كلما رآها على مقربة منه.
وأما الشخص الآخر فكان رجلاً يدعى أوبراين، وهو عضو في الحزب الداخلي، وشغل منصباً ذا أهمية كبيرة وصلاحيات واسعة، ولم يكن لدى ونستون فكرة واضحة عن طبيعته أو منصبه. وما كاد الحضور يرى البزة السوداء التي يرتديها أعضاء الحزب الداخلي حتى خيم الصمت للحظة عليهم. كان أوبراين رجلاً ضخم الجسم، قوي البنية، غليظ العنق، وذا وجه وحشي ساخر، ولكنه ورغم مظهره الذي يلقي بالروع في النفس فقد كان يحظى بشيء من الجاذبية ودماثة الخلق، وكان من عادته المبالغة في تحريك وتثبيت نطارته على أنفه بطريقة مهذبة جاذبة، وكانت حركته تلك تشبه ما كان يقوم به أحد نبلاء القرن الثامن عشر عندما يقدم علبة سعوطه إلى رجل آخر. وكان ونستون قد التقى أوبراين عشرات المرات على مدى سنوات، وكان يشعر في أعماقه بشيء من الانجذاب نحوه، ولم يكن سبب هذا الانجذاب راجعاً في الأساس للتناقض الواضح بين أخلاق أوبراين المهذبة وشكل جسمه الذي يشبه أبطال المصارعة، وإنما كان بسبب اعتقاد داخلي، أو ربما لم يكن اعتقاداً بل مجرّد أمل يحدوه، بأن ولاء أوبراين السياسي للحزب لم يكن تاماً. فقد كان ثمة شيء في وجهه يوحي بذلك إيحاء لا يقاوم، ولكن ربما كان ما يبدو على وجهه ليس انحرافاً عن ولائه للحزب وإنما كان مجرد ذكاء. بيد أنه وعلى أي حال كان يتمتع بمظهر يوحي بأنه شخص يمكنك أن تتحدث إليه مطمئناً إذا استطعت خداع شاشة الرصد والانفراد به. ولم يحدث أن كلف ونستون نفسه أبداً أدنى عناء للتحقق من ظنونه ولم يكن في الحقيقة أمامه من سبيل إلى ذلك. وفي هذه اللحظة تطلع أوبراين إلى ساعته فرأى أنها قد قاربت الحادية عشرة، فقرر البقاء داخل قسم السجلات إلى أن تنتهي فعاليات «دقيقتي الكراهية». وقد جلس على كرسي في الصف نفسه الذي جلس فيه ونستون يفصل بينهما كرسيان، كان يشغل أحدهما امرأة ذات شعر رملي تعمل في مكتب مجاور لمكتب ونستون، في حين جلست الفتاة ذات الشعر الأسود خلفه مباشرة.
وفي اللحظة التالية انبعث صوت مزعج ومخيف من شاشة الرصد في طرف القاعة، كما لو أنه يصدر عن آلة قد جف زيتها. كان صوتاً تصطك له الأسنان ويقف له شعر الرأس. ولم يكن ذلك إلا إيذاناً ببدء فعاليات الكراهية.
وكما جرت العادة، ظهر على الشاشة وجه إيمانويل غولدشتاين عدو الشعب. فتعالت الصيحات من كل أنحاء القاعة، في حين صدر عن المرأة ذات الشعر الذهبي صرخة امتزج فيها الخوف بالاشمئزاز. كان غولدشتاين هو ذاك الخائن المرتد الذي كان في وقت ما (وليس من أحد يعرف متى كان ذلك) واحداً من رموز الحزب القيادية، وكانت مكانته تكاد تضاهي مكانة الأخ الكبير نفسه، ولكنه تآمر على الحزب وتورط في نشاطات معادية للثورة فحُكم عليه بالموت، لكنه تمكن من الهرب في ظروف غامضة واختفى عن الأنظار. وكانت برامج «دقيقتي الكراهية» تتنوع من يوم إلى يوم، ولكن لم يكن هناك برنامج إلا وغولدشتاين هو محوره الرئيسي، إذ كان أول خائن للثورة وأول من سعى إلى تشويه الصورة المشرّفة للحزب، وكل الجرائم في حق الحزب وكل الخيانات والأعمال التخريبية والهرطقة والانحراف عن مبادئ الحزب، كانت نتيجة مباشرة لتعاليمه. وهو ما زال يعيش في مكان ما يدبر المكائد، ربما يكرن في مكان ما وراء البحار حيث يعيش تحت رعاية أسياده الأجانب الذين يقدمون له التمويل اللازم، وبين آونة وأخرى تظهر شائعة أنه مختبئ في مكان ما داخل أوقيانيا نفسها.
بسبب الضغوط، لم يكن ونستون يرى وجه غولدشتاين إلا وينتابه خليط من المشاعر المفعمة بالألم، كان وجهه وجه يهودي هزيل البنية، تعلو رأسه هالة من الشعر الأشيب، وله لحية أشبه بلحية (تيس)، كان وجهاً يوحي بذكاء صاحبه لكنه في مجمله صورة للخسة المتأصّلة، ويظهر فيه أنف طويل ساخر ترتكز عليه نظارتان، وكان أشبه ما يكون بوجه خروف وصوته كالثغاء.
كان غولدشتاين يلقي، كالعادة، خطابه الذي يشن فيه هجوماً ضارياً شريراً على مبادى الحزب، وكان هجومه مليء بالتحامل والمبالغات، حتى أن الطفل ليستطيع أن يستشف ذلك، إلا أنها مع ذلك كانت معقولة لدرجة تثير الفزع لدى المرء حينما يتنبه إلى أن هنالك أناساً بسطاء، وأقل إدراكاً لحقائق الأمور، قد ينخدعون بها. كان يصيح متهجماً على الأخ الكبير ويستنكر دكتاتورية الحزب، ولطالب بإرساء السلام مع أوراسيا على الفور، كما كان يطالب بحرية التعبير وحرية الصحافة وحرية عقد الاجتماعات وحرية الفكر. وكان يصيح بحماس هستيري مندداً بالخيانة التي تعرضت لها الثورة من الداخل، كل ذلك بكلمات سريعة متلاحقة في محاكاة للأسلوب الخطابي الذي اعتاده خطباء الحزب، بل وكانت خطبه تتضمن كلمات من اللغة الجديدة تفوق ما اعتاد على استخدامه أي من أعضاء الحزب أنفسهم. وفي أثناء ذلك، ومخافة أن يكون البعض قد انخدع بأكاذيبه الخافية وراء خطبته المنمقة، كانت تظهر على الشاشة وراء رأس غولدشتاين جحافل جرارة من جنود أوراسيا، صفوف متراصّة من رجال ذوي وجوه كالحة وحشية يظهرون على وجه الشاشة، كتائب متلاحقة ما إن تختفي واحدة إلا وتظهر أخرى أكثر وحشية وهمجية. وكان الإيقاع الرتيب لأحذيتهم العسكرية بمثابة الخلفية الصوتية لخطاب غولدشتاين وصوته الثغائي.
وقبل أن تمضي الثلاثون ثانية الأولى من فعاليات الكراهية، بدأت تتعالى صرخات غاضبة منفجرة من نصف الحضور في القاعة، إذ كان الوجه الأشبه بوجه الخروف والمعتد بنفسه لدرجة الغرور فضلاً عن الفزع الذي تثيره مشاهد جيش أوراسيا على الشاشة أكثر مما يمكن أن يحتمل، هذا إلى جانب أن رؤية غولدشتاين أو حتى مجرد التفكير فيه كانت تملأ قلوب المشاهدين بحالة من الخوف والغضب. لقد كان ما يثيره من كراهية يفوق تلك التي لأوراسيا أو إيستاسيا. وقد جرت العادة على أنه عندما تكون أوقيانيا في حرب مع إحدى هاتين الدولتين فهي في سلام مع الأخرى، ولكن الغريب في الأمر أن غولدشتاين هذا ورغم كونه مكروهاً وممقوتاً من الجميع، ورغم أن نظرياته كانت في كل يوم وفي كل لحظة تتعرض للدحض والنقد وتصبح مثاراً للاستهزاء على صفحات الصحف والكتب وشاشة الرصد ومنابر الحزب، كما تُقدم للرأي العام باعتبارها هراء وتحْرص، بالرغم من كل هذا، كان تأثيره شديداً لا يضعف. فقد كان هناك دائماً أغرار ينخدعون به، فلا يكاد يمر يوم إلا وتلقي شرطة الفكر القبض على جواسيس ومخربين يعملون تحت إمرته. لقد كان غولدشتاين قائدا لجيش خفي كبير وشبكة سرية من المتآمرين تعمل في الخفاء ولا هدف لها إلا الإطاحة بنظام الحكم، والتي كان يعتقد أنها تسمى رابطة «الأخوة». كذلك كان الناس يتهامسون ويتناقلون القصص حول كتاب مخيف يضم كل الهرطقات التي ألفها غولدشتاين والتي يتم تداولها بصورة سرية هنا وهناك. كان كتاباً بلا عنوان ولذا كان الناس يشيرون إليه، إذا أشاروا إليه أصلاً، باسم الكتاب. وكانت الشائعات المبهمة هي المصدر الوحيد لأي معرفة عن هذا الكتاب، إذ لم يكن أي من أعضاء الحزب العاديين يجسر على الإشارة نجي حديثه إلى «الأخوة» أو الكتاب إلا اضطراراً.
وفي الدقيقة الثانية تصاعدت الكراهية حتى صارت سعاراً، وراح الناس يثبون إلى أعلى من مقاعدهم ثم يجلسون وهم يصيحون بأعلى صوتهم حتى يطغى على الصوت الثغائي الصادر عن غولدشتاين من الشاشة. وكان وجه المرأة الصغيرة ذات الشعر الذهبي قد احتقن واكتسى باللون الأحمر القاني فيما كان فمها يفتح ويغلق كسمكة طرحها الموج على الشاطئ، وكذلك احمرّ وجه أوبراين الضخم. أما ونستون فكان يجلس منتصباً فوق مقعده فيما كان صدره يعلو ويهبط مع كل شهيق وزفير كما لو كان يتأهب لمواجهة موجة عاتية. وراحت الفتاة ذات الشعر الأسود التي تجلس خلف ونستون مباشرة تصرخ (وغد! وغد! وغد!)، ثم فجأة التقطت معجماً للغة الجديدة وقذفت الشاشة به فأصابت غولدشتاين في أنفه ثم سقط أرضاً، إلا أن صوت غولدشتاين استمر. وفي هذه اللحظة ألفى ونستون نفسه يصرخ مثل الآخرين ويضرب الأرض وحافة المقعد بقدميه في عنف. ولعل أفظع ما في «دقيقتي الكراهية» هو أن المرء لم يكن مجبراً على تمثيل دور ما، ومع ذلك كان من المستحيل عليه أن يتجنب الانخراط في هذا المشهد، ففي غضون ثلاثين ثانية لن تصبح المشاركة في «دقيقتي الكراهية» بالأمر الضروري، ذلك أن نشوة من الخوف والرغبة في القتل والانتقام والتعذيب وتهشيم الوجوه بالمطرقة كانت تتملك الحضور وتسري في أوصالهم وكأنها تيار كهربي يدفع بالمرء رغماً عنه للصراخ والصياح كمن أصابه مسّ من الجنون. ومع هذا فإن الغضب الذي كلان يشعر به المرء آنذاك كان انفعالاً طائشاً وغير محدد الوجهة ومن الممكن تحويله من وجهة إلى أخرى مثل لسان لهب متصاعد. وهكذا لم تكن كراهية ونستون في لحظة من اللحظات موجهة ضد غولدشتاين إطلاقاً، وإنما على النقيض من ذلك كأنما موجهة ضد الأخ الكبير والحزب وضد شرطة الفكر، ففي مثل هذه اللحظات كان قلبه يخفق تعاطفاً مع هذا المنبوذ الذي يظهر على الشاشة متهماً بالهرطقة ومثاراً للسخرية، وهو الوحيد الذي يقف حامياً للحقيقة والحكمة في عالم زاخر بالأكاذيب والتزوير. ومع ذلك فقد كان في اللحظة التالية يشعر بما يشعره الآخرون نحو غولدشتاين وبأن كل ما قيل عن غولدشتاين هو حقيقة لا ريب فيها. وفي تلك اللحظات كان مقته المكنون للأخ الكبير ينقلب إعجاباً يقارب العبادة، وكان الأخ الكبير حينذاك يعلو مقاماً ويصبح كحامي الحمى الجَسور الذي لا يقهر وكأنه طود عظيم يقف في وجه جحافل الجيوش الزاحفة من آسيا. بينما غولدشتاين، ورغم العزلة التي فُرضت عليه وحالة العجز التي يعيشها، بل ووجوده الذي أصبح موضع شك، فإنه يبدو مثل ساحر شرير قادر بقوة صوته فقط أن يقوض بنيان الحضارة.
لقد كان بمقدور المرء أن يحوّل كراهيته بهذا الاتجاه أو ذاك بمحض إرادته. وفجأة وبالقوة العنيفة التي يرفع المرء بها رأسه من على الوسادة حينما يستولي عليه كابوس، استطاع ونستون أن يحوّل كراهيته من الوجه الظاهر على الشاشة إلى تلك الفتاة ذات الشعر الأسود الفاحم الجالسة وراءه. وطافت برأسه تخيلات جميلة وقوية. كانت تراوده الرغبة في أن يضربها ضرباً يفضي بها إلى الموت بهراوة من المطاط، أو يقيدها عارية إلى عمود ثم يرميها بزخة من السهام مثل القديس سباستيان. كم ود لو استطاع أن يغتصبها ثم يحزّ رقبتها عند بلوغه لحظة النشوة. والآن أدرك ونستون أكثر من ذي قبل سبب كراهيته لها، لقد كان يبغضها لجمالها وصغرها وعزوفها عن الجنس، ولأنه كان يمني نفسه بأن يكون معها في فراش واحد لكن ذلك لم يكن ممكناً، فقد كانت تحيط خصرها الممشوق الناعم، الذي كان يغري المرء أن يلف ذراعه حوله، بحزام قرمزي كريه هو رمز العِفّة.
وبلغت الكراهية ذروتها، وأصبح صوت غولدشتاين ثغاء خروف حقيقي بل تحول وجهه للحظة إلى وجه خروف. ثم لم يلبث أن تلاشى ليحل محله وجه جندي من جنود أوراسيا كان يندفع كالعملاق فينشر الرعب وهو يحمل في يده بندقية آلية تهدر، ويبدو وكأنه سيثب من الشاشة، حتى أن بعض المشاهدين الذين كانوا في المقاعد الأمامية كانوا يجفلون للوراء وهم في مقاعدهم. ولكن وفي اللحظة نفسها تنفس الجميع الصعداء إذ تلاشت هذه الصورة وحلت محلها صورة الأخ الكبير بشعر رأسه الأسود وشاربه الكث ورزانته الغامضة وقوته الفياضة، وكان وجهه من الضخامة بحيث ملأ الشاشة كلها. لم يكن ثمة من يسمع ما كان يقوله الأخ الكبير. فقد كانت مجرد كلمات تشجيعية معدودة من تلك التي يُتمتم بها في معمعة المعارك لا يستطيع المرء تمييزها، بيد أنها كانت تعيد الثقة إلى النفس بمجرد التلفظ بها. ثم تلاشى وجه الأخ الكبير وظهرت شعارات الحزب الثلاثة بأحرف كبيرة بارزة:
الحرب هي السلام
الحرية هي العبودية
الجهل هو القوة
لكن وجه الأخ الكبير، ورغم زواله عن الشاشة، بقي منطبعا عليها لثوان أخر، كما لو أن تأثيره الذي تركه في أعين الحضور أقوى من أن ينمحي دفعة واحدة وعلى الفور. أما المرأة ذات الشعر الذهبي فقد انحنت في مقعدها إلى الأمام وصدرت عنها همهمة كأنها تقول «أيها المخلص»، ومدت ذراعيها باتجاه الشاشة، ثم دفنت رأسها بين راحتيها. وكان يبدو من ذلك أنها تتلو بعض الصلوات.
وفي هذه اللحظة، انخرط جميع الحاضرين في ترديد إيقاعي لترنيمة الكبير.. الكبير، كانوا يرددونها ببطء ووضوح ويتوقفون للحظات بين المرّة والأخرى. كان صوت الهمهمة ثقيلاً ومفعماً بشيء من البربرية، ومن خلفيته كان ينبعث صوت يحسبه السامع وقع أقدام عارية أو دقات طبول بعيدة. استمر ذلك الصوت ثلاثين ثانية. إنه عبارة عن لازمة تكرارية كتلك التي تُسمع عادة في لحظات الانفعال الغامرة، أو ترنيمة تتغنى بحكمة الأخ الكبير وجلاله، والأرجح أنه شكل من التنويم الذاتي المغناطيسي وحالة من تغييب الوعي من خلال الإيقاعات الرتيبة. أما ونستون فقد بدا أن البرد قد أخذ يسري فيه حتى نفذ إلى أحشائه، ومع ذلك لم يكن أمامه بد من المشاركة في حالة الهيجان العامة. أمّا تلك الترانيم الكبير.. الكبير.. فقد كانت دائماً تملأه رعباً. نعم لقد كان يترنم مع الآخرين، فقد كان مستحيلاً أن يفعل غير ذلك، فأن تخفي مشاعرك الحقيقية وأن تتحكم في انفعالات وجهك، وأن تفعل ما كان يفعله كل شخص آخر، كل ذلك كان فعلاً غريزياً. ولكن هنالك لحظات يمكن فيها أن تكون تعبيرات عينيه قد كشفت حقيقته. وفي هذه اللحظات تحديداً حدث ذلك الشيء الهام، هذا إن كان قد حدث فعلاً.
لقد التقت عيناه عيني أوبراين الذي كان قد انتصب واقفاً وهو يرفع نظارته عن أنفه ثم يعيد تثبيتها بإيماءته المميزة. ورغم أن عيونهما لم تلتقِ إلا لأجزاء من الثانية فقد كان ذلك كافياً حتى يدرك ونستون أن أوبراين كان يفكر في نفس ما يفكر فيه ونستون. لقد كانت تلك النظرة بمثابة رسالة لا يمكن أن يخطئها المرء، وبدا كما لو أن عقل كل منهما قد انفتح على عقل الآخر فتدفقت الأفكار من واحد لآخر عبر عيونهما. وخيّل لونستون أن أوبراين يقول له «أنا معك، إنني على معرفة دقيقة بمشاعرك، وأعرف كل شيء عما تضمره من ازدراء وكراهية واشمئزاز، ولكن لا عليك فأنا في صفك!» عندئذ خبا بريق التخاطر الفكري وبدا وجه أوبراين خلواً من أي تعبير كسواه من وجوه الآخرين.
هذا كل ما حدث. ولم يكن ونستون متأكداً من أن كل ذلك قد حدث فعلاً، لأن مثل هذه الحوادث تمر عادة دون أن تكون لها نتائج، وكل ما فعلته هو أنها أبقت على اعتقاده أو أمله بأن هنالك أيضاً آخرين لديهم مشاعر العداء نفسها نحو الحزب. ولربما كانت الشائعات عن وجود مؤامرات سرية واسعة النطاق صحيحة، بل ربما كانت رابطة «الأخوة» موجودة حقاً. لقد كان من المستحيل على المرء، بالرغم من الاعتقالات اللانهائية والاعترافات المتتالية وأحكام الإعدام، أن يؤمن بان «الأخوة» إن هي إلا خرافة. وكان ونستون يؤمن أحياناً بوجودها وأحياناً بعدم وجودها. لم يكن هنالك دليل، بل مجرد إشاعات قد تعني شيئاً وقد لا تعني شيئاً، فالمكالمات المسترقة أو الكتابات المسجلة على جدران المراحيض العامة أو حتى لقاء غريبين أو إشارة يد تبدو كأنها إشارة سرية للتعارف، كل ذلك مجرد تكهنات ومن المحتمل جداً أن يكون الأمر كله محض خيال لا يوجد إلا في مخيلة ونستون.
عاد ونستون إلى مكتبه دون أن يلتفت مرة ثانية إلى أوبراين، ولم تخطر بباله فكرة متابعة هذا التواصل العابر. كان الأمر ينطوي على مخاطر شديدة حتى لو عرف كيف يحتاط لها، لقد تبادلا نظرة غامضة وخاطفة لم تدم أكثر من ثانيتين وهذا كان كل ما في الأمر. ولكن حتى ذلك الأمر العابر كان حدثاً يستحق الذكر في مثل هذا الجو الانعزالي الذي كان يتحتم على المرء العيش فيه.
نهض ونستون من مقعده ثم جلس منتصباً، ثم تجشأ، فقد كان الشراب يغلي في معدته.
أعاد التحديق في الصفحة التي أمامه فاكتشف أنه عندما كان مستغرقاً في التفكير كتب على الصفحة شيئاً ما بدافع عفوي لا إرادي، ولم تكن الكتابة هذه المرة كتلك التي كانت حروفها غير مقروءة جيداً، فقد جرى قلمه هذه المرة بسهولة على الورق الناعم وبأحرف كبيرة أنيقة:
ليسقط الأخ الكبير
ليسقط الأخ الكبير
ليسقط الأخ الكبير
ليسقط الأخ الكبير
وظل يكتب هذه العبارة حتى ملأ بها نصف الصفحة.
وما إن استفاق لما يخطه بيده حتى تملّكه شعور بالفزع والهلع. إن الأمر لا يعدو أن يكون هراء إذ إن كتابة هذه الكلمات لم تكن أشد خطراً من مجرد اقتنائه مفكرة والبدء في تسجيل مذكراته. وقد راودته الرغبة في تمزيق الصفحات التي كتبها ومن ثم التخلي عن ذلك المشروع المغامرة برمته.
ولكنه لم يفعل ذلك لإدراكه أن تمزيقها لن يجدي فتيلا، وسيان أكتب ليسقط الأخ الكبير أو أحجم عن كتابتها، وسواء احتفظ بالمفكرة أو لم يحتفظ بها، فإن شرطة الفكر ستعتقله. فقد اقترف، وما زال يقترف، جرماً، بل وحتى لو لم يضع القلم على الورق فقد اقترف أمّ الجرائم التي تنطوي على جميع الجرائم، إنهم يطلقون عليها «جريمة الفكر»، وهي جريمة ليست بالأمر الذي يمكن إخفاؤه إلى الأبد، فربما يمكنك مواراتها عن العيون لحين من الزمن أو لسنوات ولكن إن عاجلا أو آجلا لا بد أن تقع في قبضتهم.
كانت الاعتقالات تقع دائماً تحت جنح الليل، حيث يفزع صاحب الجرم من نومه على يد خشنة تهزه بغلظة، فيفتح عينيه على ضوء ساطع مسلط على عينيه، ويجد مجموعة من رجال ذوي وجوه عابسة يتحلقون حوله وهو ما يزال في فراشه. وكانت أغلب هذه الحالات تمر دون محاكمات أو حتى محاضر اعتقال، حيث كان الناس يختفون أثناء الليل. وكان اسمك يشطب من السجلات ويشطب معه كل شيء يتعلق بك أو لك فيه ذكر، حتى إن النكران يطال فكرة وجودك أصلاً ثم يتم نسيانك. لقد انتهيتَ ثم تلاشى ذكرك وكأنك تبخرت، نعم إنك تبخرت لقد كانت هذه هي الكلمة التي يصفون بها عادة ما حدث.
وانتابت ونستون للحظة من الزمن نوبة هستيرية، وراح يكتب بسرعة وبخط متعرج: سيرمونني بالرصاص، بيد أنني لا أبالي. سيطلقون النار عليّ من الخلف غير أنني لا أبالي، وليسقط الأخ الكبير.. إنهم دائماً يطلقون النار عليك من الخلف لكنني لا أبالي، ليسقط الأخ الكبير.
ثم اتكأ في مقعده وقد شعر ببعض الخجل من نفسه، ووضع القلم جانباً. وفي اللحظة التالية استأنف الكتابة بنشاط ولكن سرعان ما سمع طرقاً على الباب.

ظل ونستون على سكونه كفأر مذعور في جحره، يحدوه أمل واه بأن الطارق سينصرف بعد المحاولة الأولى، بيد أن الطرق توالى. ولأن أسوأ ما يمكن أن يفعله في مثل هذا الظرف هو التلكؤ في الاستجابة فقد أخذ قلبه يدق كالطبل. ولكن وجهه كان، بحكم العادة، جامداً وخلواً من أي تعبير. ثم وقف ومشى متثاقلاً صوب الباب.

الجزء الأول - الفصل 2

الفصل الثاني



عندما وضع ونستون يده على مزلاج الباب تذكر أنه ترك المفكرة على الطاولة مفتوحة، وعبارة (ليسقط الأخ الكبير) تكاد تغطي الصفحة بأحرف كبيرة بما يكفي لقراءتها عن بعد. وهنا تنبه إلى أنه ارتكب حماقة تفوق الوصف، لكنه حتى مع هذا الفزع الذي انتابه لم يكن يريد طي الغلاف قبل أن يجفّ الحبر خشية أن تتلطخ الورقة.
استجمع شجاعته ثم فتح الباب، وسرعان ما استشعر موجة من الارتياح تسري في أوصاله، فالذي كان في الباب امرأة شاحبة اللون، ذات شعر أشعث ووجه مغضن بالتجاعيد.
ابتدرته المرأة بصوت مبحوح وحزين: «آه، أيها الرفيق، لقد شعرت بقدومك، هل بإمكانك المجيء لمعاينة مغسلة مطبخي، فالبالوعة مسدودة».
كانت هذه المرأة السيدة بارصون زوجة جاره في الطابق نفسه. (كانت كلمة «سيدة» ممجوجة إلى حد ما في الحزب وكان من المفترض أن يُدعى أيّ كان بلقب «رفيق» ومع ذلك كان يجري استعمالها مع بعض النساء أحياناً بإيحاء من الفطرة). كانت امرأة في الثلاثين من عمرها على وجه التقريب، ولو أنها تبدو أكبر من ذلك. وكان من يراها يتولد لديه انباع بأن غباراً يتخلل تغضنات وجهها. سارت فتبعها ونستون عبر الممر متململًا، فأعمال الصيانة هذه كانت مصدر إزعاج شبه يومي له، لأن كل الشقق في بناية النصر قديمة، حيث يعود تاريخ بنائها إلى 1930 أو ما يقرب من ذلك التاريخ، وكانت بناية متداعية، فالجفصين يتساقط من الأسقف والجدران، والأنابيب تنفجر بفعل الصقيع، والأسطح تسرّب المياه إلى الداخل عندما تغطيها الثلوج. وكان نظام التدفئة لا يعمل إلا بنصف طاقته، هذا إذا لم يتم إيقافه كلية بدعوى التوفير. وأما الإصلاحات، فيما عدا تلك التي بإمكان الساكن إنجازها بنفسه، فكان يجب أن تمر معاملاتها عبر لجان كانت تتلكأ في تنفيذ أي شيء، حتى أن إصلاح لوح من الزجاج كان تنفيذه يحتاج إلى سنتين. ثم قالت السيدة بارصون معتذرة: «ما حصل كان بالتأكيد بسبب غياب طوم عن البيت».
كانت شقة عائلة بارصون أوسع من شقة ونستون، ووضيعة مثلها، ولكن تتميّز بأشياء أخرى. فكل شيء مهشم ومحطم كما لو أن حيواناً هائجاً قد عاث فيها. والكثير من مستلزمات الألعاب الرياضية ملقاة على الأرض كمضارب لعبة الهوكي وقفازات الملاكمة وكرة قدم مفرغة من الهواء فضلاً عن سروالين متسخين، وعلى الطاولة كومة من الأطباق المتسخة والدفاتر الممزقة الزوايا. أما على الجدران فكانت تظهر أعلام رابطة الشباب واتحاد الجواسيس بلونها القرمزي، بالإضافة إلى صورة ضخمة للأخ الكبير. وكانت هناك أيضاً تلك الرائحة المعتادة - رائحة الملفوف المسلوق - التي تنتشر في كل أرجاء المبنى، تختلط معها رائحة عرق يفرزه جسم شخص ما، بيد أن هذا الشخص لم يكن في تلك اللحظة موجوداً بالغرفة. أما في الغرفة الأخرى فقد كان هنالك شخص ما يحمل مشطاً وقطعة من ورق الحمام يحاول أن يعزف بهما مقلّداً إيقاع موسيقى عسكرية كانت لا تزال تنبعث من شاشة الرصد.
وقد أشارت السيدة بارصون بعد أن أطلّت إطلالة خاطفة من باب الغرفة المجاورة: «إنهم الأولاد، لم يخرجوا من البيت هذا اليوم، وهذا لسبب ... ».
)يظهر أنه كان من عادتها أن تقطع الجمل في وسطها). كانت مغسلة المطبخ ممتلئة حتى نصفها بماء متسخ مائل للاخضرار، رائحته أكثر نفاذًا من رائحة الملفوف. جثا ونستون على ركبتيه وراح يتفحص كوع الأنبوب. كان يكره استعمال يديه، كما يكره الانحناء لأن ذلك يسبب له نوبات من السعال، بينما كانت السيدة بارصون تنظر إليه نظرة بائسة.
قالت: «لو أن طوم كان موجوداً لاستطاع أن يصلحها في لحظة، إنه يهوى القيام بمثل هذه الأعمال، إنه ماهر اليدين، نعم إن طوم هكذا».
بارصون هذا هو زميل ونستون في وزارة الحقيقة. لقد كان رجلاً مائلاً للسمنة، نشيطاً ولكن عليه علامات غباء مستحكم، بل هو كتلة من الحماس الأحمق، وواحد من ذوي الولاء الأعمى الذين يتوقف عليهم استقرار الحزب أكثر من توقفه على شرطة الرصد. في الخامسة والثلاثين من عمره، أُبعد كارهاً عن رابطة الشباب، وكان قبيل أن ينتسب إلى هذه المنظمة قد التحق باتحاد الجواسيس لمدة سنة بعد السن القانونية. أما في الوزارة فكان يشغل منصباً ثانوياً لم يكن يتطلب أي قدر من الذكاء، غير أنه من ناحية أخرى كان من القياديين في الهيئة الرياضية، وكل الهيئات المعنيّة بتنظيم الرحلات الجماعية والاستعراضات وحملات الادخار والتوفير والأنشطة التطوعية الأخرى. وكان بإمكانه أن يقول لك بكل فخر، وهو يدخن غليونه، إنه ظل على مدى الأربع سنوات الماضية يحضر جلسات الملتقى المجتمعي كل مساء، ورائحة عرقه النفاذة كانت شهادة كافية على نوع الحياة التي يحياها، حيث ترافقه أينما حل، بل ويتركها وراءه بعد انصرافه.
وضع ونستون يده على البالوعة باشمئزاز وقال: «هل يوجد لديكم مفتاح ربط؟»
- «لا أدري» أجابت السيدة بارصون على الفور، بينما انحنت لتنظر، «لا أدري أين أجده فالأولاد غالباً ... »
كان هنالك صوت وقع أقدام وجلبة ولعب بأسنان المشط يُسمع عندما اندفع الأولاد إلى غرفة الجلوس. وكانت السيدة بارصون قد وجدت مفتاح الربط وجاءت به. وهكذا تمكن ونستون من تسريب الماء من البالوعة بعد أن أخرج وهو متأفف كتلة شعر بشري كانت تتسبب بانسداد الأنبوب. ثم غسل أصابعه بقدر المستطاع بماء بارد من الصنبور وتوجّه إلى الغرفة الأخرى المجاورة للمطبخ.
لكنه فوجئ بصوت وحشي يزعق فيه قائلاً: «ارفع يديك فوق رأسك!»
كان الصوت لصبي جميل ذي مظهر خشن، في التاسعة من عمره، اندفع من خلف طاولة، وهو يهدده بمسدس زائف، بينما كانت شقيقته، التي تصغره بسنتين، تقلّده وفي يدها قطعة خشب. كلاهما كان يلبس سروالاً أزرق وقميصاً رمادي اللون ورباط عنق أحمر، وهو الزي الرسمي للجواسيس. رفع ونستون يديه فوق رأسه متبرماً، فقد كان في مظهر الصبي عدوانية شديدة توحي بأن الحكاية ليست مجرد مزحة.
- «أنت خائن»، صاح به الصبي، «إنك مجرم فكر، إنك من جواسيس أوراسيا، سأطلق عليك النار، سأزيلك من الوجود، سأرسلك إلى العمل في محافر الملح!»
وفجأة بدآ يقفزان من حوله وهما يصيحان «الخائن، مجرم الفكر». كانت الصغيرة تقلّد أخاها في كل حركة أو كلمة يأتي بها. لقد كان الأمر مخيفاً، إذ ذكّره بمن يداعب صغار النمور التي تتحول حينما تكبر إلى آكلة للحوم البشر. لقد كان يلمح شراسة متنمرة في عيني الصبي ورغبة واضحة في أن يرفس ونستون أو يضربه، فضلاً عن شعور بأنه صار في سن تسمح له بذلك. أدرك ونستون بأن من حسن حظه أن المسدس لم يكن مسدساً حقيقياً.
كانت السيدة بارصون تجول بناظريها ما بين ونستون وولديها وعلامات الارتباك بادية عليها. وعلى ضوء غرفة الجلوس الأكثر سطوعاً لاحظ ونستون باهتمام أن غباراً حقيقياً كان يتخلل تغضنّات وجهها.
«إنهما يحدثان جلبة شديدة»، هذا ما علقت به، واستطردت: «لقد استاءا لأنهما لم يخرجا اليوم لمشاهدة أحد أحكام الإعدام شنقاً، هذا كل السبب، فأنا مشغولة ولا يسمح لي وقتي بمرافقتهم، وطوم لا يعود من عمله في الوقت المناسب».
«لماذا لا نذهب للتفرج على عملية الشنق» صاح الولد بصوت زاعق وغاضب، وتغنّت الصغيرة وهي ترقص مرحاً «نريد مشاهدة الشنق! نريد مشاهدة الشنق!».
لقد كانت ستجري بالفعل عملية شنق بعض الأسرى من أوراسيا، أسرى متهمين بارتكاب جرائم حرب، وذلك مساء في الحديقة العامة. تذكر ونستون أن مثل هذا كان يجري مرة كل شهر تقريبا وكان مشهداً يحظى بشعبية عالية. ودائماً يلحّ الأطفال في طلبهم لحضوره ومشاهدته. استأذن ونستون من السيدة بارصون وأخذ طريقه إلى الباب، ولكنه لم يكد يخطو بضع خطوات حتى شعر بأن شيئاً قد ضربه على ظهره ورقبته مسبباً له ألماً مبرحاً، شعر كأنما سلكاً متوهجاً إلى درجة الاحمرار قد لسع ظهره، فالتفت في اللحظة نفسها ليرى السيدة بارصون تجرجر ولدها إلى الوراء عبر الممر بينما كان الولد يهم بإخفاء مقلاع حصى في جيبه. وما إن أوصد ونستون الباب وراءه حتى صرخ الولد: غولدشتاين. ولكن ما صدم ونستون وآلمه، كان ذلك الخوف البائس الذي ارتسم على وجه المرأة الرمادي.
عاد ونستون إلى شقته واجتاز شاشة الرصد إلى كرسي قرب الطاولة وهو ما يزال يتحسس رقبته. كانت الموسيقى التي تنبعث من الشاشة قد توقفت، وحل محلها صوت عسكري جاف يقرأ بلهجة وحشية بياناً عن قوة تسليح القلاع العائمة الجديدة التي كانت قد رست بين أيسلندا وجزر فارو.
أدرك ونستون أنه مع مثل هذين الطفلين لا بد وأن تحيا هذه المرأة التعسة حياة رعب دائم. فلن تمر سنة أو سنتان إلا وسيكون طفلاها قد انتظما في سلك الجاسوسية يرصدان تحركاتها ليل نهار ترقباً لأي علامات انحراف عن نهج الحزب قد تظهر عليها. إن معظم الأطفال في هذه الأيام قد باتوا مصدر رعب لأهلهم. وأسوأ ما في الأمر أن الصغار بانضمامهم إلى منظمات مثل اتحاد الجواسيس كان يتم تحويلهم بشكل منهجي إلى رعاع صغار لا يمكن ضبطهم، وهذا بدوره يقتل فيهم أي ميل إلى الثورة ضد نظام الحزب، بل على النقيض من ذلك سيصبحون عبيداً للحزب ولكل ما يتصل به. إن الأغاني، والمواكب، وحمل الرايات، والرحلات الجماعية، والتدريب على الأسلحة الزائفة، والهتاف، وتقديم فروض الطاعة والهتاف بحياة الأخ الكبير، كل ذلك كان نوعاً من اللعب الممتع بالنسبة لهم. أما ضراوتهم وشراستهم فكانتا توجهان إلى الخارج، إلى أعداء الدولة، إلى الأجانب والخونة وزمر المخربين ومجرمي الفكر. وكان أمراً طبيعياً لمن هم فوق سن الثلاثين أن يخافوا أولادهم، فلم يكن يمر أسبوع إلا وتنشر فيه جريدة (التايمز) قصّة تحت عنوان «بطل صغير» تروي كيف استطاع «البطل» أن يتنصت على والديه ويشي بهما لشرطة الفكر بنقله ملاحظة تضعهم موضع شبهات.
كان ألم حصاة المقلاع قد خف وزال، عندما أمسك بقلمه متململاً، وهو يتساءل عما سيكتب في مفكرته، ولكنه فجأة وجد نفسه يفكر في أوبراين مرة ثانية.
قبل سنوات، لا يعلم كم على وجه التحديد، ربما سبع سنوات، رأى فيما يرى النائم أنه كان يجول في غرفة حالكة الظلام، فسمع شخصاً ما، على مقربة منه، يقول له وهو يجتازه «سنلتقي يوما في مكان يغمره النور حيث لا ظلام»، قيلت هذه الجملة بمنتهى الهدوء والاتزان، كانت خبراً ولم تكن أمرا، مشى هذا المتكلم دون أن يتوقف. الغريب أن هذه الكلمات التي سمعها في الحلم لم تكن ذات وقع شديد عليه أول الأمر، بيد أن ما ترمي إليه من معانٍ أخذ ينجلي له رويداً رويداً فيما بعد. إنه لا يتذكر الآن ما إذا كانت رؤيته لأوبراين للمرة الأولى قد جاءت قبل هذا الحلم أم بعده، ولا هو استطاع أن يتذكر ما إذا كان الصوت صوت أوبراين نفسه، ولكن على أية حال كان يظن أنه ميّز الصوت، وأن أوبراين هو الذي كلمه في الظلام.
لم يكن ونستون متأكداً، وحتى بعد تلاقي شعاع عيونهما في ذاك اليوم، ما إذا كان أوبراين عدواً أم صديقاً، بل حتى هذا التحديد لم يبدُ ذا أهمية كبيرة له. لقد جمعهما رباط من التفاهم، رباط أقوى من رباط العاطفة أو الحزبية، «سنلتقي يوماً حيث لا يكون ظلام». لم يكن ونستون يفهم ما الذي يعنيه بهذا القول، لكنه كان يعتقد بأنه بطريقة أو بأخرى سيأتي هذا اليوم.
توقف الصوت المنبعث من الشاشة، وملأت هواء الغرفة الساكن موسيقى صوت بوق جميل وصاف. ثم عاد ذلك الصوت الذي يثير الأعصاب، يقول:
«انتباه، من فصلكم أعيروني انتباهكم، وردنا تواً نباً هام من جبهة مالابار. إن قواتنا في جنوبي الهند قد أحرزت انتصاراً باهراً. لقد خولتني السلطات أن أعلن أن تقدمنا على هذه الجبهة، والذي نذيعه لكم الآن، سيمكننا من وضع نهاية لهذه الحرب، فإليكم ما ورد في هذه الإشارة ...»
وهنا خطر ببال ونستون أنها مقدّمة لأنباء سيئة. وهكذا كان، إذ بعد الوصف المروّع لعملية الإبادة التي لحقت بجيوش أوراسيا، والأرقام المذهلة لأعداد القتلى والأسرى، أردف البيان بأنه ابتداء من الأسبوع القادم سيتم خفض حصة الفرد من الشوكولا من ثلاثين غراماً إلى عشرين.
هنا تجشأ ونستون ثانية، كان مفعول الشراب آخذاً في الزوال مخلفاً شعوراً بالخزي. أما الشاشة، ربما احتفالاً بالنصر أو للتغطية على نبأ تخفيض حصة الشوكولا، فقد انتقلت فجأة لبث نشيد «يا أوقيانيا كل هذا من أجلك». وكان من المفروض عندما تسمع النشيد أن تقف في حالة الاستعداد، لكن ونستون لم يكن في مجال رؤية الشاشة. 
تَبِع نشيد «يا أوقيانيا كل هذا من أجلك»، موسيقى خفيفة. مشى ونستون نحو النافذة وظهره إلى شاشة الرصد. كانت السماء ما تزال صافية والهواء بارداً. تناهى إلى سمعه صوت قذيفة صاروخية انفجرت بعيداً محدثة دوياً رجّ الأرض رجاً. لم يكن ذلك غير مألوف، ففي الوقت الحاضر يسقط ما بين عشرين وثلاثين من أمثال هذه القذائف على لندن أسبوعياً.
في الشارع كانت الريح ما تزال تتلاعب بالصورة المعلقة، وكانت عبارة الاشتراكية الإنجليزية المنحوتة بكلمة «اش انك» كما نحتت في قاموس اللغة الجديدة تظهر وتختفي مع كل هبة ريح. ومعها المبادئ المقدسة التي تشير إليها: التفكير الازدواجي، إمكانية تغيير الماضي. وقد شعر ونستون وكأنه تائه في غابات قاتمة في أعماق البحار، وقد ضل في عالم وحشي، حيث هو نفسه ذلك الوحش. لقد كان وحيداً. وكان الماضي ميتاً، والمستقبل مجهولاً ولا يمكن حتى تصوّره، كيف له أن يتأكد ما إذا كان هنالك إنسان يقف إلى جواره؟ وكيف له أن يعرف أن هيمنة الحزب لن تدوم إلى أبد الدهر؟ وجواباً عمّا دار في خلده من تساؤلات، عادت الشعارات الثلاثة المكتوبة على واجهة وزارة الحقيقة للظهور أمامه:
الحرب هي السلام.
العبودية هي الحرية.
الجهل هو القوة.
أخرج من جيبه قطعة نقود من فئة الخمسة والعشرين سنتيماً، كان على أحد وجهيها هذه العبارات نفسها وقد نُقشت بأحرف دقيقة واضحة، بينما نُقش على الوجه الآخر وجه الأخ الكبير. كانت عيناه، حتى من خلال قطعة النقود، تلاحقانك. على العملة، على الطوابع، على أغلفة الكتب، على الأعلام، على ألواح الإعلانات!، على علب السكاكر. في كل مكان ودائماً، عيناه تراقبانك وصوته يحيط بك. وسواء كنت مستيقظا أو نائماً، تعمل أو تأكل، داخل منزلك أو خارجه، في الحمام أو في الفراش لا فرق، لا مهرب لك. أنت لا تملك سوى تلك السنتيمترات المكعبة داخل جمجمتك.
مالت الشمس نحو الغروب فانحسرت عن نوافذ وزارة الحقيقة الكثيرة، والتي بدت كئيبة وأشبه بكوى في أسوار قلعة. كان قلبه يرتجف أمام هذا الشكل الهرمي الضخم. رآه حصناً منيعاً لا يمكن اقتحامه، حتى إن آلافاً من القذائف الصاروخية تعجز عن النيل منه. مرة ثانية تساءل لمَن يكتب ما يكتبه في مفكرته، أتراه يكتب للمستقبل أم للماضي، أيكتب لعصر ربما لن يوجد إلا في خيالاته؟ وأمام عينيه لم يكن الموت فحسب يقف متربصاً، بل الفناء. والمفكرة ستتحول إلى رماد وهو نفسه سيموت ويتحول إلى بخار. لن يكون هنالك أحد غير شرطة الفكر يقرأ هذه الأفكار وذلك قبل أن تمحوها من الوجود والذاكرة معاً. كيف يمكن أن تكتب للمستقبل، إذا كان لا يمكن لأي أثر لك أن يبقى لهذا المستقبل، ولا حتى كلمة على قصاصة ورق مجهولة الكاتب.
دقت ساعة الشاشة الثانية بعد الظهر، وعليه أن ينصرف في غضون عشر دقائق ليعود لعمله مرة ثانية في الدقيقة الثلاثين بعد الثانية ظهراً.
أحسّ أن دقات الساعة بدت كأنها قد بعثت في كيانه روحاً جديدة، كان كشبح وحيد يتمتم بينه وبين نفسه بالحقيقة دون أن يسمعه أحد على الإطلاق، ولكن ما دام يمكنه الاستمرار في ذلك فإن هذه التمتمة ستتواصل، فليس بمجرد إسماع الآخرين صوتك بل ببقائك سليم العقل يمكنك مواصلة حمل التراث الإنساني. عاد ونستون إلى الطاولة وجلس على الكرسي ثم تناول القلم وبدأ يكتب: «إلى المستقبل أو الماضي، إلى الزمن الذي يكون الفكر فيه حراً طليقاً، إلى زمن يختلف فيه الأشخاص عن بعضهم البعض ولا يعيش كل منهم في عزلة عن الآخر، إلى زمن تظل الحقيقة فيه قائمة ولا يمكن فيه لأحد أن يمحو ما ينتجه الآخرون.
وإليكم، من هذا العصر الذي يعيش فيه الناس متشابهين، متناسخين، لا يختلف الواحد منهم عن الآخر. من عصر العزلة، من عصر الأخ الكبير، من عصر التفكير المزدوج، تحياتي!»
شعر آنذاك كأنه في عالم الأموات، وبدا له أنه في هذه اللحظة فقط، لحظة بات فيها قادراً على صياغة أفكاره، قد اتخذ الخطوة الحاسمة. إن عواقب كل عمل تكمن في العمل نفسه، وكتب: «إن جريمة الفكر لا تفضي إلى الموت، إنها الموت نفسه».
الآن وقد أدرك أنه ميت لا محالة أصبح من الأهمية له أن يبقى على قيد الحياة قدر ما يتاح له ذلك. نظر إلى يده فوجد أن إصبعين من يمناه كانتا ملطختين بالحبر. وهذه هي بالضبط الأشياء الصغيرة التي يمكن أن تشي بك. فربما بسبب ذلك يبدا بعض المتحمسين للحزب في الوزارة (امرأة مثلاً كتلك المرأة ذات الشعر الرملي أو تلك الفتاة ذات الشعر الأسود التي تعمل في دائرة الإثارة) في التساؤل لماذا، ما الذي يجعله ينصرف إلى الكتابة ساعة الغداء؟ ثم لماذا يستعمل هذا النوع القديم من الأقلام في الكتابة، ثم ما الذي كان يكتبه يا ترى! ثم ترسل بتلك التساؤلات إلى المسؤول المختص. فأسرع إذ ذاك إلى الحمام، وراح، بحرص، يزيل الحبر بتلك الصابونة الخشنة التي تقشط الجلد قشطاً وكأنها صُنعت خصيصاً لهذه الغاية.

وبعد ذلك أعاد المفكرة إلى درج المكتب. ليس لأن إخفاءها أمرٌ ممكن، فمن العبث أن يفكر في ذلك، بل ليكون قادرا على معرفة ما إذا كان أحد قد توصل إليها أم لا. إن شعرة يضعها على نهاية تلك الصفحة يمكن كشفها بسهولة، ولذلك التقط بطرف بنانه ذرة غبار أبيض ووضعها على إحدى زوايا الغلاف، حيث يكفي مجرّد تحريك المفكرة لإزاحتها عن الغلاف.

الجزء الأول - الفصل 3

الفصل الثالث



كان ونستون يحلم بأمه. حرك ذاك الحلم ذكراها في داخله، وفكر أنها لا بد قد اختفت وهو بعد في العاشرة أو الحادية عشرة من عمره. كانت امرأة طويلة ممشوقة القوام كتمثال، تميل إلى الصمت، بطيئة الحركة، ولها شعر أشقر جميل. بعدئذ تذكر والده على نحو أكثر تشوشاً، فما يذكره عن والده أنه أسمر البشرة، نحيف، ويرتدي دائماً ملابس سوداء أنيقة (وأكثر ما يذكره ونستون عن والده أنه كان ينتعل حذاءً ذا نعل رقيق) ويضع نظارة على عينيه. وقد قضى والداه نحبهما في إحدى موجات التطهير الواسعة التي جرت في الخمسينات.
في تلك اللحظة كانت أمه تجلس في مكان سحيق تحته وهي تحمل شقيقته الصغرى بين ذراعيها. وأما شقيقته فلم يكن يتذكر شيئاً عنها على الإطلاق فيما عدا أنها كانت طفلة نحيلة، ضعيفة، دائمة الصمت وذات عينين واسعتين شاخصتين. كلتاهما كانتا تتطلعان إليه. فكلتاهما كانتا في موضع ما أسفل الأرض، ربما في قاع بئر مثلاً أو في قبر عميق، ولكنه، رغم بُعد المكان عنه وعمقه، فإنه كان ما زال يهوي إلى أسفل. كانتا على سطح سفينة تغرق وتنظران إليه عبر ظلمة المياه. كان ما يزال هناك بعض الهواء الذي تتنفسانه، وما يزال باستطاعته أن يراهما وترياه وكانتا تغرقان وتغرقان إلى الأعماق السحيقة حيث المياه الخضراء التي ستواريهما عن الأنظار إلى الأبد. كان هو في الهواء الطلق وتحت أشعة الشمس، أما هما ففي الماء الذي يشدهما نحو الموت. لقد كانتا حيث هما لأجل أن يكون هو في مكانه الذي هو فيه. كان يدرك ذلك كما تدركانه، ويراه على وجهيهما. لم يكن هنالك ملامة على وجهيهما أو في قلبيهما نحوه، كأنهما تعرفان أنه كان يجب أن تموتا من أجل أن يظل هو على قيد الحياة. وكان هذا جزءاً من مسار لا مفرّ منه.
لم يكن باستطاعته أن يتذكر ما الذي حصل، لكنه عرف في حلمه بطريقة ما أن أمه وشقيقته قدمتا حياتيهما فداء لحياته هو. لقد كان حلما من تلك الأحلام التي، رغم محافظتها على المشهد المميز لأجواء الأحلام، تبقى امتداداً لحياة الإنسان الفكرية، والتي يصبح المرء فيها على وعي بالحقائق والأفكار التي تبقى محفورة في ذاكرته حتى بعد أن يستيقظ.
وما خطر لونستون هو أن موت أمه، منذ ثلاثين سنة تقريباً، كان مأساة محزنة بشكل لم يعد موجوداً. فالمأساة، كما يفهمها، باتت شيئاً يخص العالم القديم، وينتمي لزمان كان ما يزال فيه خصوصية وصداقة وحب، لزمان كان ما يزال أفراد العائلة الواحدة يقفون فيه جنباً إلى جنب دونما حاجة إلى معرفة السبب. كانت ذكرى وفاة أمه تمزّق قلبه، فقد كانت تحبّه، وماتت وهي تحبّه، فيما كان هو صغيراً وأنانياً أعجز من أن يبادلها حبّاً بحب. ولسبب لا يعرفه لم يكن يتذكر كيف ضحت بنفسها في سبيل مفهوم من الولاء كان خاصاً بها وغير قابل لأن يتحوّل أو يتزعزع. ورأى أن أشياء كهذه لا يمكن أن تحدث في هذه الأيام التي باتت زماناً للخوف والكراهية والألم، ولا مكان فيها للعواطف السامية أو للأحزان العميقة أو المعقدة المتشابكة.
كل هذا بدا له أنه يراه في عيون أمه وأخته الواسعة عندما كانتا تتطلعان إليه عبر المياه الخضراء، وعلى بعد مئات الفراسخ في الأعماق، وهما تغرقان لأسفل وتغرقان.
وفجأة رأى نفسه واقفاً على أرض يكسوها عشب ربيعي في نهاية نهار صيفي حيث أشعة الشمس المائلة للغروب تذهّب الأرض. إنه المشهد نفسه الذي يتكرر مراراً في أحلامه حتى بات يشك فيما إذا كان قد رأى ذلك في اليقظة أم في المنام. في أوقات اليقظة كان يسمي هذا المشهد: الريف الذهبي. إنه مرعى قديم كانت ترعى فيه الأرانب، ويجتازه متلوياً ممر ضيق وحفر خِلْدٍ هنا وهناك. أما على السياج في الجانب المقابل من الحقل فقد كانت أغصان شجر الدردار تتمايل على نحو خفيف مع النسيم بينما تحف أوراقها متحركة بكتلها الكثيفة مثل شعر النساء. وعلى مقربة ينساب جدول صاف ورقراق حيث تسبح الأسماك في برك تحت أشجار الدردار.
وعبر الحقل، كانت الفتاة ذات الشعر الأسود تسير نحوه. وبحركة واحدة نزعت ثيابها ورمتها جانباً دون اكتراث. كان جسدها ناعماً وبشرتها بيضاء، لكن ذلك لم يثر فيه أدنى رغبة، بل إنه بالكاد تطلع إليها. لكن الذي استهواه من ذلك كله هو تلك الحركة التي نزعت بها ثيابها وطرحت بها أرضاً. فبرشاقتها وعدم مبالاتها بدا كأنها تقوّض ثقافة كاملة وتنقض نظاماً فكرياً بكليته، كما لو أن الأخ الكبير والحزب وشرطة الفكر يمكن أن تذهب أدراج الرياح بحركة بارعة كحركة ذراعها. لقد كانت هذه الحركة أيضاً من بقايا الزمن القديم. واستيقط ونستون وكلمة شكسبير على شفتيه.
كانت شاشة الرصد ترسل صفيراً يصم الآذان استمر على وتيرة واحدة لثلاثين ثانية. وكانت الساعة تدق السابعة والربع وهو وقت استيقاظ العاملين بالمكاتب. قفز ونستون من فراشه عارياً، إذ كان العضو العادي بالحزب لا يتسلم إلا ثلاثة آلاف قسيمة ملابس سنوياً، وكانت البيجامة تكلف وحدها ستمائة، لبس على عجل بعض الملابس الداخلية المتسخة وسروالاً كان معلقاً على كرسي. كانت فترة التمارين الرياضية ستبدأ في غضون ثلاث دقائق. وفي اللحظة التالية تملكته نوبة سعال عنيفة، كانت تنتابه تقريباً بعد استيقاظه، أجهدت رئتيه بشدة حتى أنه لم يكن يستطيع التنفس إذ ذاك إلا بعد أن يستلقي على ظهره ويشهق عدة شهقات عميقة. انتفخت عروقه من أثر السعال كما بدأت الدوالي تؤلمه.
ثم تعالى صوت أنثوي قوي لامرأة تزعق: «المجموعات من ثلاثين إلى أربعين! رجاء، خذوا أماكنكم! من ثلاثين إلى أربعين!».
قفز ونستون متخذا وضعية الاستعداد أمام الشاشة. ظهرت امرأة شابة نحيفة لكنها مفتولة العضلات ترتدي بدْلة وحذاء رياضياً، ثم صرخت:
«مع ثني الذراعين ومدّهما، تابعوا معي، واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، هيا أيها الرفاق، لتكن حركاتكم أكثر حيوية. واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة! واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة ...»
لم يصرف ألم السعال ذهن ونستون عن الانشغال بما أثاره ذلك الحلم داخله. بل إن تلك الحركات المتناسقة من التمرين الرياضي قد أبقت على هذا التأثير. فبينما كان يحرك بصورة آلية ساعديه إلى الأمام وإلى الوراء، إلى فوق وإلى تحت، متظاهراً بالانشراح، وهو ما كان يعد أمراً ضرورياً أثناء التمارين الرياضية، كان يحاول جاهداً استرجاع تلك الفترة التي يلفّها من طفولته المبكرة، ولو أن ذلك كان في غاية الصعوبة، فبعد الخمسين يتلاشى كل شيء من الذاكرة. وإذا لم يكن هنالك سجلات يمكنك الرجوع إليها، فإن خط حياة الإنسان قد يُمحى أثره من الذاكرة. قد تخطر على ذاكرته أحداث كبيرة من المحتمل ألا تكون قد وقعت، أو تفاصيل أحداث دون أن تكون قادراً على استكناه الأجواء والظروف التي رافقتها. ومن الممكن أن تكون هناك فراغات زمنية كبيرة لا يمكنك أن تملأها بأي أحداث. لقد تغير كل شيء، حتى أسماء البلدان ومساحاتها على الخرائط تغيّرت. فالقطاع الهوائي رقم واحد على سبيل المثال لم يكن هذا اسمه في تلك الأيام، كان يسمى إنجلترا أو بريطانيا، أما لندن، حسبما كان يشعر، فقد كانت دوماً تسمى لندن.
لا يذكر ونستون على وجه التحديد وقتاً لم تكن فيه بلاده في حالة حرب، ولكن كان من الثابت له أنه كان هنالك فترة طويلة من السلام قد خللت طفولته، لأن من ذكريات طفولته الأولى يذكر غارة جوية فاجأت الجميع على حين غرة. ربما كان ذلك عندما ألقيت قنبلة ذرية على كولشيستر. وهو لا يذكر الغارة نفسها، لكنه يذكر يد والده وهي تقبض على يديه بينما كانا يُهرعان نازلين إلى مكان عميق تحت الأرض على سلم حلزوني يرن تحت قدميه، مما آلم ساقيه واضطره للتوقف وأخذ قسط من الراحة. فيما أمه بحركتها الهادئة الحالمة كانت في صف طويل وراءهما وهي تحمل أخته الصغيرة، أو لعل ما تحمله كان صرة من البطانيات. فهو ليس متأكداً مما إذا كانت أخته قد وُلدت أم لا. أخيراً وصلوا إلى مكان مزدحم يعج بالضجيج، وهو حسبما اعتقد، محطة قطار أنفاق.
كان هنالك أناس يجلسون على أرض مرصوفة بالحجارة، بينما آخرون يتزاحمون بشدة وهم يجلسون على مقاعد معدنية الواحد فوق الأخر. استطاع ونستون وأمه وأبوه أن يجدوا لهم موطئاً. وبالقرب منهم كان رجل وامرأة طاعنان في السن يجلسان جنبا إلى جنب على مقعد. كان الرجل العجوز يلبس بذلة سوداء وقبعة من القماش الأسود تنحسر للوراء كاشفة عن شعر ناصع البياض. كان وجهه قرمزياً وعيناه زرقاوين ومغرورقتين بالدموع، وتنبعث منه رائحة الخمر وكأنها تفوح من جسمه وليس من الشراب. حتى كان المرء ليحسب أن الدموع التي تسيل من عينيه هي خمر صاف. ولكنه رغم كونه ثملاً قليلاً، فإنه كان رازحاً تحت أحزان حقيقية لا تحتمل. وبطريقتيه الطفولية أدرك أن ثمة واقعة فظيعة، واقعة لا يمكن غفرانها أو علاجها، قد حدثت. وبدا له أيضاً أنه قد عرف السعب. شخص ما كان يحبه العجوز، ربما حفيدة صغيرة، قد قضت نحبها. وكان العجوز يتمتم من حين لآخر قائلاً: «كان يجب ألا نثق بهم، هذا ما قلته أليس كذلك، هذا ما جنيناه من ثقتنا بهم، لقد كنت أقول ذلك دائماً، ما كان ينبغي لنا أن نثق بهؤلاء الأنذال».
لكن من هم هؤلاء الذين ما كان عليهم أن يثقوا بهم؟ أمر لم يعرفه ونستون. منذ ذلك الوقت كانت الحرب متواصلة، ولو أننا أردنا الدقة، فإنها لم تكن دائماً الحرب نفسها. فعلى مدى أشهر، أثناء طفولته، كان قتال عنيف يدور في شوارع لندن نفسها. وهو ما يزال يذكر بعضه بوضوح. ولكن التاريخ لا يأتي حتى على إشارة لتلك الفترة. من كان يحارب من وفي أي وقت؟ أمر كهذا مستحيل طالما أنه لا سجل مكتوب أو كلمة مسجلة قد أتت على ذكر أي تحالفات غير تلك القائمة في الوقت الراهن. ففي هذه اللحظة مثلا في 1984 (إن كانت هذه اللحظة فعلا في 1984)، أوقيانيا في حرب مع أوراسيا، بينما تُحالف إيستاسيا. لكن ما من بيان عام أو خاص اعترف يوماً بأن القوى الثلاث قد أقامت تحالفات مختلفة عما هو قائم اليوم. ولكن ونستون عرف جيداً، أنه منذ أربع سنوات فقط كانت أوقيانيا في حرب مع إيستاسيا ومتحالفة مع أوراسيا. كان ذلك مجرد إدراك مبهم لأن ذاكرته وأفكاره لم تكن تحت سيطرته بصورة كافية. فعلى المستوى الرسمي لم يحدث أي تغيير في التحالفات. فإذا كانت أوقيانيا في حرب مع أوراسيا، إذن فان أوقيانيا كانت دائماً في حرب مع أوراسيا. ذلك أن عدو اللحظة الراهنة يمثل الشر المطلق، وهذا ما يؤكد أن وفاقاً في الماضي أو المستقبل كان في حكم المستحيل.
كان الشيء المخيف الذي خطر له للمرة الألف، وهو يدفع بكتفيه إلى الوراء متألماً (بينما يداه على خاصرته ويتحرك حركة استدارية من الوسط، وهي حركة يفترض أنها تقوي عضلات الظهر)، أجل الشيء المخيف هو أن يكون ما انتابه من مخاوف صحيحاً! لو أن الحزب يستطيع أن يضرب يده في الماضي ليقول إن هذا الحدث أو ذاك لم يحدث أبداً. لو كان ذلك لكان أشد إفزاعاً من التعذيب أو الموت.
إن الحزب يقول إن أوقيانيا لم تدخل أبداً في تحالف مع أوراسيا، بينما ونستون سميث يعرف أن أوقيانيا كانت في تحالف مع أوراسيا منذ وقت قريب، ولكن مثل هذه المعلومات أين يمكن أن نجدها. إنها فقط في ضميره الذي لا يلبث أن يُسحق، وإذا قبل الناس الأكذوبة التي ألزمهم بها الحزب، وإذا كانت كل السجلات تحكي القصة نفسها، فان الأكذوبة تدخل التاريخ وتصبح حقيقة. وأحد شعارات الحزب «من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي». لكن الماضي، الذي هو في طبيعته قابل لإعادة النظر، لم يحدث أبداً أن تغير. فما هو صحيح اليوم كان صحيحاً منذ الأزل وسيبقى كذلك إلى الأبد. إن الأمر في منتهى البساطة، فكل المطلوب هو سلسلة لا تنتهي من الانتصارات على ذاكرتك «الاستحواذ على الحقيقة» أو كما يسمونها في اللغة الجديدة «التفكير الازدواجي».
«استرح» صرخت المدربة وهي تبتسم قليلاً.
أرخى ونستون دراعيه وملأ رئتيه بالهواء ببطء، بينما كان عقله ينزلق في متاهات التفكير الازدواجي .. أن تعرف وألا تعرف، أن تعي الحقيقة كاملة، ومع ذلك لا تفتأ تقص الأكاذيب محكمة البناء، أن تؤمن برأيين في آن وأنت تعرف أنهما لا يجتمعان ومع ذلك تصدق بهما. أن تجهض المنطق بالمنطق، أن ترفض الالتزام بالأخلاق فيما أنت واحد من الداعين إليها. أن تعتقد أن الديمقراطية ضرب من المستحيل، وأن الحزب وصي عليها. أن تنسى كل ما يتعين عليك نسيانه، ثم تستحضره في الذاكرة حينما تمس الحاجة إليه، ثم تنساه مرة ثانية فوراً، وفوق كل ذلك أن تطبق الأسلوب نفسه على الحالتين. ذلك هو الدهاء الكامل، أن تفقد الوعي عن عمد ووعي، ثم تصبح ثانية غير واعٍ بعملية التنويم الذاتي التي مارستها على نفسك. بل حتى إن فهم عبارة التفكير الازدواجي تستدعي منك اللجوء للتفكير الازدواجي.
ومرة ثانية دعتهم المدربة لاتخاذ وضع الاستعداد: «الآن دعونا نرى من منا يستطيع أن يلمس أصابع قدميه» نادت بحماس، ثم أردفت قائلة «ابدأوا من فوق الوركين، رجاء أيها الرفاق. واحد، اثنان! واحد، اثنان! ...»
كان ونستون يكره هذا التمرين الذي يسبب له آلاماً حادة من كعبيه إلى إليتيه وغالباً ما كان ينتهي بنوبة سعال حادة. لم يكن له غير تأملاته ما يجعله مسروراً إلى حد ما. إن الماضي، كما تراءى له، لم يتغير فحسب، بل اجتُثّ من جذوره. إذ كيف يمكن أن تبرهن على أكثر الحقائق جلاء حينما لا يكون لديك أي سجل لها خارج ذاكرتك؟ هنا حاول ونستون أن يتذكر في أي سنة سمع للمرّة الأولى بالأخ الكبير. يُخيل إليه أن ذلك كان في الستينات، لكنه من رابع المستحيلات أن يتأكد من ذلك. ففي سجلات الحزب يصور الأخ الكبير طبعاً باعتباره زعيم الثورة وحاميها والقيّم عليها منذ أيامها الأولى. ومآثره كانت تتوغل تدريجياً في الماضي حتى وصلت إلى عالم الأربعينات والثلاثينات الخرافي، عندما كان الرأسماليون، بقبعاتهم الأسطوانية الغريبة، ما زالوا يسيرون في الشوارع بسياراتهم الفارهة أو عربات الخيول ذات الجوانب اللامعة. لم يكن أحد يعرف من هذه الأسطورة ما هو الحقيقي وما هو المختَلَق، بل إن ونستون نفسه لم يستطع تذكر التاريخ الذي جاء فيه الحزب إلى الوجود، ويعتقد أنه لم يسمع بكلمة «إنج شك» قبل عام 1960، ولكن قد يكون من الممكن أنها قد اشتقت من «الاشتراكية الإنجليزية» في اللغة القديمة، مما يعني أنها كانت أسبق.
كان الضباب يحجب كل شيء. وكان بمقدورك أحياناً أن تضع يدك على أكذوبة محددة. فعلى سبيل المثال، تزعم كتب تاريخ الحزب أن الحزب هو أول من اخترع الطائرات، فيما ونستون يذكر الطائرات منذ طفولته الأولى، ولكن لا يمكن الحصول على برهان لنقض هذا الادعاء. مرة واحدة في حياته وقعت يداه على دليل وثائقي لا يمكن دحضه، برهان على تزييف حقيقة تاريخية. وفي تلك المناسبة... هنا قاطعه صوت غاضب آت من شاشة الرصد «سميث، يا سميث رقم 6079، نعم أنت، انحنِ أكثر إلى الأسفل، إنك تستطيع أن تؤدي أداء أفضل، لكنك لا تبذل جهداً كافياً، انحنِ أكثر رجاء. هذا أحسن أيها الرفيق. الآن استريحوا جميعاً وراقبوني.»
وفجأة تصبب كل جسم ونستون عرقاً حاراً، ومع ذلك بقي وجهه خلواً من أي انفعال. فليس له أن يظهر الخوف وليس له أن يظهر الاستياء. رفة عين واحدة يمكن أن تودي بك. كان ونستون واقفا يراقب بينما رفعت المدربة ذراعيها فوق رأسها ثم انحنت (ليس للمرء أن يقول بلطف ولكن بخفة وإتقان) ثم وضعت أصابع يديها تحت أصابع قدميها.

«هكذا يا رفاق. هكذا أريدكم أن تفعلوا. راقبوني ثانية. أنا في التاسعة والثلاثين من عمري ولدي أربعة أطفال. الآن انتبهوا»، وانحنت ثانية: «لاحظوا. ركبتاي غير مثنيتين، باستطاعتكم جميعًا أن تفعلوا مثلي إذا أردتم» قالت ذلك وهي تنتصب ثانية. «إن أي شخص لم يتجاوز الخامسة والأربعين يمكنه أن يلمس أصابع قدميه. فنحن الذين لم نحظ بشرف القتال على خطوط الجبهة، علينا على الأقل أن نبقى متمتعين باللياقة. تذكروا أبناءنا على جبهة مالابار! والبحارة على القلاع العائمة! فكروا فقط في كل ما عليهم أن يتحملوه. والآن حاولوا ثانية، هذا أفضل يا رفيق، أفضل بكثير»، قالت مشجعة حين نجح ونستون بعد جهد جهيد في ملامسة أصابع قدميه دون أن يثني ركبتيه للمرة الأولى منذ سنوات عديدة.

الجزء الأول - الفصل 4

الفصل الرابع



بتنهيدة عميقة ولاإرادية، لم يمنعه حتى قربه من شاشة الرصد عن زفرها وهو يبدأ عمل يومه، سحب ونستون جهاز التسجيل باتجاهه ثم نفخ الغبار عن مهتافه. لبس نظارتيه، وأخرج أربع لفافات صغيرة من الورق وثبتها بمشجب، وكانت هذه اللفافات قد أُلقيت من الأنبوب الهوائي الموجود إلى يمين طاولته.
في حجيرة مكتبه كانت هنالك ثلاث فتحات: عن يمين جهاز التسجيل أنبوب هوائي صغير للرسائل المكتوبة . وعن يساره أنبوب أكبر للصحف. وفي الحائط الجانبي، في متناول يد ونستون كوة كبيرة مستطيلة الشكل ومغطاة بشبكة سلكية. وهذه الأخيرة كانت للتخلص من الأوراق التالفة . كان هناللك آلاف أو عشرات الآلاف مسن هذه الكوى المتشابهة داخل البناء، ليس في الغرف فحسب، بل حتى على مسافات قصيرة قي الممر. لسبب ما كان الناس يسمونها قبور الذاكرة . فعندما كان يعرف المرء أن هنالك وثيقة تَقرر إتلافها، أو حتى عندما يرى قطعة ورق تالفة ملقاة هنا أو هناك، كان تلقائيًا يقصد أقرب قبور الذاكرة ويرفع غطاءها ثم برمي بها داخلها، حيص يحملها تيار من الهواء الدافيء إلى أفران ضخمة مخفية في تجاويف البناء.
حلّ ونستون لفافات الورق الأربع وتفحّصها. كانت كل واحدة منها تحتوي على رسالة من سطر أو سطرين فقط باللغة المختصرة ، وهيليست لغة جديدة فعليًا ولكنها تتألف في معظمها من مفردات من اللغة الجديدة. تستعمل في الوزارة للأغراض الداخلية . وكانت تجري على النحو التالي:
الزمان، 17-3-84، خطاب للأخ الكبير نقل مغلوطًا إلى افريقيا. نقّحه.
الزمان، 19-12-83، التوقعات3، ي ب، الربع الرابع، 83، أخطاء مطبعية، دققوا الإصدار الحالي.
الزمان 14-2-84، وزارة الوفرة، حصل خطأ بالشوكولا، تحققوا.
الزمان 13-2-83، نقل أمر اليوم لـ غ ك خاطئ جدًا، لا تشيروا إلى أشخاص، أعيدوا للكتابة وأتلفوا الأوراق السابقة.
بقليل من الرضا نحّى ونستون الرسالة الرابعة جانبًا، إذ كانت معقدة وعلى درجة من الأهمية تجعل من الآنسب إرجاء معالجتها إلى الآخر. أما الرسائل الثلاث الأخريات فقد كانت أمورًا روتينية الطابع، بينها واحدة توحي بوجوب الخوض قي غمار قوائم أرقام مملة .
أدار ونستون ((أرقامًا خلفية)) على شاشة الرصد طالبًا أعدادًا معينة من مسحوقة ((التايمز)) . انزلقت الصحيفة من الأنبوب الهوائي بعد بضع دقائق فقط.وكانت الرسائل التي تلقاها تشير إلى مقالات أو فقرات إخبارية سيتعين لسبب أو لآخر تعديلها ، أو على حد قول العبارة الرسمية، تصحيحها. فعلى سبيل المثال نشرت صحيفة ((التايمز)) في عددها الصادر في السابع عشر من مارس أن الأخ الكبير، في خطابه الذي ألقاه قبل يوم، تنبأ أن جبهة جنوبي الهند ستظل هادئة ، فيما ستشن أوراسيا هجومًا وشيكًا على شمال أفريقيا . ولكن ما حدث هو أن القيادة العليا الأوراسية قد شنّت هجومها على جنوب الهند وليس على شمال افريقيا . لذلك كان من الضروري إعادة كتابة الفقرة الموجودة في خطاب الأخ الكبير بالشكل الذي يظهر اأه تنبأ بما وقع فعلاًً. كما أن «التايمز» في عددها التاسع عشر من كانون الأول (ديسمبر) قد نشرات التوقعات الرسمية لإنتاج أصناف مختلفة من السلع الاستهلاكية في الربع الأخير من العام 1983 ، والذي كان قي الوقت نفسه الربع السادس من الخطة الثلاثية التاسعة . أما عدد لليوم فقد احتوى على بيان بالإنتاج الفعلي الذي تبيّن من خلاله أن التوقعات كانت خاطئة إلى حد كبير في كل جوانبها. وكانت مهمة ونستون تصحيح أرقام التوقّعات الأصلية وجعلها تتفق مع الأرقام الجديدة . أما بالنسبة إلى الرسالة الثالثة فقد كانت تثير إلى خطأ صغير جدًا يمكن تصحيحه قي غضون دقيقتين. فمنذ فترة وجيزة تعود إلى شباط (فبراير)، ىنمت وزارت الوفرة قد أصدرت وعدًا (أو حسب العبارة الرسمية «تعهدًا قاطعًا») بأنه لن يكون ثمة تخفيض في حصة الشوكولا خلال عام 1984. هذا بينما كان ونستون على معرفة بأن حصة الفرد من الشوكولا سيتم تخفيضها فعلاًً من ثلاثين غرامًا إلى عشرين بنهاية الأسبوع الحالي . ومن ثم كان يتوجب عليه هو استبدال كلمة «الوعد» المشار إليها في البيان بكلمة «تحذير» من احتمال اللجوء اضطرارًا لتخفيض حصة الشوكولا في وقت ما من نيسان (أبريل) .
وحالما انتهى ونستون من معالجة هذه الرسائل، أرفق تصحيحاته بالأعداد الخاصة بها من «التايمز» ثم دفعها في الأنبوب الهوائي . وبعدئذ، وبحركة يبدو أنها لا إرادية جعّد الرسائل الأصلية وأية ملاحظات كان قد دوّنها بنفسه ، ثم رمى بها جميعًا في أحد قبور الذاكرة لتلتهمها النيران .
أما ماذا كان يجري في المتاهة غير المرئية حيث ينتهى الأنبوب الهوائي فأمر لم يكن ونستون يعرفه بصورة مفصلة ، وإنما كان فقط يلم به إلمامًا عامًا. فحالما يتم تجميع ومقارنة كافة التصحيحات التي يصدف أن تكون لازمة في عدد من أعداد «التايمز»، يعاد طبعه من جديد، ويتم إتلاف النسخة الأصلية ووضع النسخة المصححة في ملفات المحفوظات محلها. ولم تكن عملية التبديل المتواصلة هذه تطبق على الصحف فحسب، بل كانت تطال أيضًا الكتب والدوريات والنشرات والإعلانات والأفلام وأشرطة التسجيل وأفلام الكرتون والصور وكذا كل أنواع الأدب أو الوثائق التي يمكن أن تحمل مضامين سياسية أو أيديولوجية . فيومًا بيوم وربما دقيقة بدقيقة يتم تحديث الماضي بما يجعله يتوافق والحاضر. وهكذا، فإن كافة تنبؤات الحزب يتسنى، بالدليل الوثائقي، إظهارها باعتبارها صائبة. كما أن كل فقرة إخبارية أو أي إبداء لوجهة نظر تنعارض مع مجريات الحاضر كان لا يسمح لها بالبقاء ضمن أي سجلات. فالتاريخ كله كان بمثابة لوح تم تنظيفه لإعادة النقش عليه بما تستلزمه مصلحة الحزب. وحينما يتم الانتهاء من عمل ما، فإنه يصبح من المتعذر تمامًا على أيٍّ كان الإتيان ببرهان على أن ثمة تزييفًا قد جرى . وكان أكبر الأقسام ضمن دائرة السجلات، والذي يكبر بكثير ذاك الذي يعمل به ونستون، يتألف من أشخاص مهمتهم هي تعقب وتجميع كافة نسخ الكتب والصحف وأية وثائق حلمت محلها أخرى وبارت يتعين إتلافها . وهناك مجموعة من أعداد «التايمز»، والتي ربما بسبب تغيير في التحالفات السياسية أو نبوءة كاذبة وقع فيها الأخ الكبير، قد تمّت إعادة كتابتها عشرات المرارت وما زالت محفوظة في ملفاتها حاملة تاريخها الأصلي دون أن تظهر أي نسخ أخرى تناقضها. وحتى الكتب أيضًاً كان يتم استردادها وإعادة كتابتها المرة تلو المرة، ثم إعادة طباعتها بصورة مغايرة دون الإشارة إلى أي تغييرات جرت عليها. بل وحتى التعليمات الخطية التي كان يتسلمها ونستون والتي كان يتخلص منها فور الانتهاء منها ، لم تشر من بعيد أو قريب لأي عمليات تزييف يتعين القيام بها. وكل ما كان يشار إليه داومًا هو مجرد هفوات أو أخطاء مطبعية أو اقتباسات مغلوطة يلزم تصحيحها توخيًا للدقة.
ولكن ونستون كان يعتبر، وهو يعيد ضبط أرقام وزارة الوفرة، أنذلك ليس تزييفًا، بل مجرد استبدال تفاهات بتفاهات. فمعظم المواد التي كان يتعامل معها لم تكن تمتّ بصلة لما يحصل على أرض الواقع . فالإحصائيات كانت وهمية في نسسخها الأصلية شأنها شأن نسخها المعدّلة . وفي كثير من الأحيان كان من المفترض أن تختلقها اختلاقًا من مخيلتك. فعلى سبيل المثال كانت توقعات وزارة الوفرة قد قدرت إنتاج الأحذية الربع سنوي بمائة وخمسة وأربعين مليون زوج من الأحذية، بينما كان الإنتاج الفعلي اثنين وستين مليونًا . ولدى إعادة كتابة التوقعات، خفّض ونستون الرقم إلى سبعة وخمسين مليونًا مفسحّا بذلك المجال للادعاء لاحقّا بأن ثمة فائضًا في الحصة المقررة . وعلى أي حال، فإن اثنين وستين مليونًا لم تكن أقرب إلى الحقيقة من سبعة وخمسين مليونًا أو من مائة وخمسة وأربعين مليونًا، ومن الممكن ألا يكون قد تم إنتلج أي أحذية على الإطلاق. بل وعلى الأرجح، لم يكن أحد يعرف ما تم إنتاجه أو حتى يبالي بمعرفة ذلك. فكل ما كان يعرفه المرء عن إنتاج الأحذية هو أرقام فلكية لا توجد إلا على الورق، في الوقت الذي كان زهاء نصف سكان أوقيانيا حفاة ، وهكذا كان شأن كافة الحقائق المسجلة، صغيرة كانت أم كبيرة. فكل شيء يتلاشى في عالم من الظلال إلى حد يصبح معه حتى تاريخ السنة أمرًا مشكوكًا فيه.
رفع ونستون ناظريه عبر القاعة . في الحجرة المقابلة لمكتبه على الجانب الآخر كان ثمة رجل ضئيل الجسم، دقيق الملامح، ذو ذقن سوداء، يُدعى تيلوتسون، يعمل بدأب، واضعًا على ركبتيه صحيفة مطوية، ومقرّبًا فمه من مهتاف جهاز التسجيل. وكان يبدو من هيئته أنه يحاول الاحتفاظ بما يقوله سرًا، بينه وبين شاشة الرصد . وعندما رفع رأسه لاحظ أنّ ونستون ينظر إليه، فبادله بنظرة عداء .
كان ونستون لا يعرف من هو تيلوتسون هذا ولا العمل الذي يقوم به . فالناس في دائرة السجلات كانوا لا يميلون للتحدث عما يُسنَد إليهم من مهام. ففي القاعة الطويلة الخالية من النوافذ، وحجراتها المصطفة على صفين وحفيف الأوراق الذي لا ينتهي وهمهمة الأصوات التي تهمس أمام أجهزة التسجيل، كان يعمل عشرات الموظفين الذين لم يكن ونستون حتى يعرف أسماءهم ، مع أنه كان يراهم يوميًا يروحون ويجيئون سراعًا في الممرات أو يلوحون بالإشارات في أثناء «دقيقتي الكراهية». ولكنه كان يعرف أن في الحجرة المقابلة لحجرته ، تعمل المرأة ذات الشعر الرملي ، التي تعكف يوميًا على تعقب ومحو ما يرد في الصحف من أسماء لأناس تمّت إزالتهم من الوجود، ومن ثم ينبغي اعتبارهم وكأنهم لم يكونوا أبدًا. وكان في ذلك شيء من الملاءمة لحالتها ، إذ كان زوجها قد لاقى ذلك المصير قبل سنتين. وعلى بُعد بضع حجرات كان هنالك شخص هادئ، غير فعال، ويبدو كأنه يعيش في عالم من الخيال، يدعى إمبلفورث، وذو أذنين مغطاتين بشعر كثيف ويتمتع بموهبة مدهشة ر التعامل مع القوافي والأوزان. كان إمبلفورث يعكف على إنتاج نسخ محرفة ، أو نصوص نهائية كما كانت تسمى، من القصائد التي أصبحت تتعارض مع أيديولوجية الحزب ، ولكن لسبب أو لآخر كان ينبغى استبقاؤها في موسوعة المختارات الأدبية. وهذه القاعة التي تضم خمسين عاملاً أو ما يقارب هذا العدد، كانت قسمًا فرعيًا واحدًا، أو خلية مفردة ضمن المنظومة الضخمة المعقدة لدائرة السجلات. بينما كان يوجد فوق وتحت، مجموعات كبيرة من العاملين المنهمكين في كم هائل من أعمال لا يمكن تخيلها. فهناك قاعات الطباعة الضخمة بخبراتها واستديوهاتها المجهزة بشكل جيد من أجل تزييف الصور. وهنالك قسم البرامج الإعلامية بمهندسيه ومنتجيه وفرق الممثلين الذين اختيروا خصيصًا لمهاراتهم في تقليد الأصوات ، كما كان ثمة جيوش من الكتّاب المراجعين الذين تقتصر وظيفتهم على وضع قوائم بالكتب والدوريات التي ينبغي مراجعتها. وكان هنالك مستودعات ضخمة حيث تخزن الوثائق المصححة فضلاً عن الأفران المخفية والتي يجري فيها إتلاف النسخ الأصلية. وفي مكان أو آخر، مجهول الاسم، كانت هنالك العقول المدبرة التي يناط بها التنسيق بين الجهود وإرساء الخطوط العامة للسياسة التي تقرر ما يجب الاحتفاظ به من الماضي، وما يجب تزويره أو محوه .
ولم تكن دائرة السجلات هذه إلا فرعاًا من فروع وزارة الحقيقة ولم تكن مهمتها الأساسية إعادة بناء الماضي فحسب، بل تزويد مواطني أوقيانيا بالصحف والأفلام والكتب ، وبرامج شاشة الرصد، والروايات والمسرحيات، وبكل أنواع الإعلام أو الإرشاد أو التسلية، من التمثال إلى الشعار، ومن القصيدة الغنائية إلى بحوث علم الأحياء ، من كتب التهجئة الخاص بالأطفال إلى معجم اللغة الجديدة . ولم يكن على وزراة الحقيقة أن تلبي الاحتياجات المتنوعة للحزب فحسب، بل عليها أيضًا أن تؤدي الدور نفسه، ولكن بمستوى أدنى، لمصلحة البروليتاريا. فهناك سلسلة كاملة من دوائر الوزارة المنفصلة التي تتعامل مع أدب البروليتاريا وموسيقاهم ومسرحهم ووسائل لهوهم بصورة عامة . وهناك تصدر جرائد تافهة لا تحوي شيئًا تقريبًا إلا أخبار الرياضة والجرائم والتنجيم. وتنتج الروايات الجنسية ذات الخمسة سنتات وأفلام الإثارة الجنسية والأغاني العاطفية التي يتم تأليفها بوسائط آلية مثل ذلك النوع من جهاز الكاليدسكوب المعروف بناظم الشعر. وهناك أيضًا قسم فرعي - اسمه في اللغة الجديدة بّورنوسيك - ويعمل على إنتاج أحط أنواع المواد الإباحية، وهذه كانت توزع بمغلفات مختومة لا يسمح لأي عضو من أعضاء الحزب، ما عدا أولئك الذين يعملون فيها، بالنظر إليها .
انزلقت ثلاث رسائل من الأنبوب بينما كان ونستون يعمل، لكنها كانت تتعلق بأمور بسيطة، واستطاع بالفعل الانتهاء من أمرها قبل أن يداهمه موعد «دقيقتي الكراهية». وحينما انتهت الدقيقتان عاد إلى حجرته، وتناول معجم اللغة الجديدة من فوق الرف، وأزاح جهاز التسجيل جانبًا ، ونظف نظارتيه حتى يفرغ لمهمته الرئيسية في ذلك اليوم .
كانت أمتع الساعات في حياة ونستون هي تلك التي يمضيها في العمل. صحيح أن معظم العمل كان مملاً ورتيبًا، ولكن كانت هناك مهام صعبة ومعقدة إلى حد قد ينسى المرء نفسه في غمرتها ، كما ينساها وهو منهمك في مسألة رياضية ، حيث يُطلب منك عملية تزوير دقيقة وليس ثمة ما تسترشد به غير معرفتك بمبادىء «انج سوك» وتقديراتك الثسخصية لما يريد الحزب أن يقوله . وكان ونستون يجيد مثل هذه المهام، حتى أنه كان يُعهد إليه أحيانًا بتعديل المقالاربى الرئيسية في «التايمز» المكتوية بكاملها باللغة الجديدة. فض ونستون الرسالة وقرأ ما يلي:
الزمان 3-12-83 نقل الأمر اليومي للأخ الكبير خاطئ جدًا جدًا، عدم الإشارة إلى أشخاص، اكتبه ثانية مصححًا، أرسله إلى فوق، لا تحفظه.
وفي اللغة القديمة تعني:
أمر الأخ الكبير في جريدة التايمز يوم 3 كانون الأول (ديسمبر) وفيه إشارات لأشخاص غير موجودين فعلاًً. أعد كتابته بشكل كامل وابعث بالمسودة إلى مرجع أعلى قبل وضعه هي الملف وحفظه.
تفحّص ونستون المقالة المثيرة للاعتراض، فأمرُ الأخ الكبير كما يبدو كان مخصصًا للإشادة بعمل مؤسسة إذ إذ سي سي، التي كانت تزود البحارة في القلاع العائمة بالسجائر وبعض الكماليات الأخرى . ذكر أحد الرفاق ويدعى الرفيق وذرذ وهو من الأعضاء البارزين في النخبة، مثنيًا عليه ومنحه وسامًا رفيعًا من الدرجة الثانية.
وبعد ثلاثة أشهر حُلت هذه المؤسسة فجأة. وكان بوسع المرء الظن بأن وذرذ وشركاءه قد باتوا من المغضوب عليهم ، ولكن لم تصدر أية إشارة إلى ذلك لا في الصحف ولا على شاشة الرصد. كان ذلك هو المتوقع، لأنه لم يكن من المعتاد أن يحاكَم السياسيون المنشقون أو حتى يدانون علنًا. فحملات التطهير الكبرى التي تشمل آلاف الناس وتصحبها محاكمات علنية للخونة ولمجرمي الفكر الذين أقروا بخسّة ما اقترفوا من جرائم وجرى إعدامهم فيما بعد، لم تكن سوى عيّنات خاصة للعرض ولا تحدث غالبًا أكثر من مرة واحدة كل سنتين. أما الأمر المألوف فهو أن الأشخاص الذين يجلبون على أنفسهم غضب الحزب كانوا يختفون من الوجود ويختفي معهم ذكرهم دون أن يُعثر على أي مفتاح يكشفه سر اختفائهم . وفي بعض الحالات لا يكون هؤلاء قد ماتوا بعد. وربما يعرف ونستون ثلاثين شخصًا، فضلاًعنه أبويه، ممن اختفوا في هذا الوقت أو ذاك .
حك ونستون انفه بملقط للورق في يده، بينما كان الرفيق تيلوتسون ما زال منكبًا على جهاز للتسجيل بصورة توحي بسرية ما يفعله. ولما رفع راسه ثانية باتجاه ونستون شعر بنظرة عداء تلمع في عينيه. تساءل ونستون عما إذا كان الرفيق تبلوتسون منهمكًا قي المهمة نفسها التي تم إسنادها إليه . إن ذلك من الجائز تمامًا . فمهمة على هذه الدرجة العالية من الدقة، لا يمكن أن نعهد بها إلى شخص بمفرده؛ ومن جهة ثانية إلا أوكلت هذه المهمة للجنة معناه الاعتراف العلني بوقوع التزوير. لذلك من المرجّح أن يكون هنالك عشرات من العاملين يعكفون الآن على عمل نسخ لما قاله الأخ الكبير بالفعل. وبعد ذلك يقوم بعض ذوي العقول المدبرة من أعضاء النخبة في الحزب باختيار هذه النسخة أو تلك، وإعادة تنقيحها عبر عمليات معقدة من المراجعة مع الإحالات اللازمة، ثم يتم تمرير الكذبة التي وقع الخيار عليها إلى السجلات الدائمة لتصبح حقيقة .
لم يكن ونستون يدري أي جرم ارتكبه وذرذ، ربما حدث ذلك بسبب الفساد أو عدم الكفاءة. أو ربما لأن الأخ الكبير كان يرغب في التخلص من أحد مرؤوسيه الذين يحظون بشعبية جارفة . أو قد يكون لأن وذرذ أو واحدًا من ذويه قد اشتُبِهَ في أن لديهم ميولاً انشقاقية، أو ربما ، وهو الأرجح ، أن ما حصل قد حصل فقط لأن حملات التصفيات والإبادة كانت جزءاً ضروريًا من آليارت عمل الحكومة. المفتاح الوحيد الحقيقي لهذا اللغز يكمن في عبارة «لا تشر إلى الأشخاص» هي ما تنطوي على إشارة إلى أن وذرذ قد مات فعلاًً. لكن ليس لك أن تفترض دائمًا بأن هذه هي الحال مع كل الذين يتم القبض عليهم، ففي بعض الأحيان يطلق سراج بعضهم ويمنحون حريتهم لسنة أو سنتين ثم ينفذ فيهم حكم الإعدام. وأحيانًا كثيرة قد يظهر بعض من تحسبهم في عداد الموتى منذ أمد طويل ظهورًا خاطًا عبر محاكمة علنية حيث يدلي بشهادة يورّط بها مئات آخرين قبل أن يختفي، ولكن للأبد هذه المرة . أما وذرذ فلم يكن يُعَدّ شخصًا على أي حال، وهذا يعني أنه لم يكن له أبدًا أي وجود . وهنا قرر ونستون أن مجرد قلب اتجاه خطاب الأخ الكبير لن يكون كافيًا، وأن من الأفضل أن يجعله يعالج مسألة لا علاقة لها أبدًا بموضوعه الأصلي.
كان في وسعه تحويل الخطاب إلى إدانة للخونة ولمجرمي الفكر، ولكن ذلك سيكون مكشوفًا، كما كان يمكنه أن يختلق انتصارًا تحقق على الجبهة، أو نجاحًا في تحقيق فائض إنتاج في الخطة الثلاثية التاسعة، ولكن ذلك قد يعقد السجلات تعقيدًا شديدًا. إن المطلوب هو قطعة من الخيال الخالص. وفجأة خطرت على باله فكرة جاهزة . إنها صورة الرفيق أوغيلفي الذي مات مؤخرًا في ميدان المعركة وسط أجواء ملحمية. وما أكثر المناسبات التي كان الأخ الكبير يكرس فيها خطابه اليومي لإحياء ذكرى أحد أعضاء الحزب عديمي الذكر المتواضعين ليجعل من حياتهم ومماتهم مثالاً يحتذى به . واليوم يجب الإشادة بذكرى الرقيق أوغيلفي . صحيح أنه لم يكن هنالك وجود سابق لشخص حقيقي اسمه أوغيلفي، ولكن بضعة أسطر مكتوبة وصورتين مزيفتين له لكفيلة بأن تجعل له وجودًا.
أطرق ونستون لحظة ثم جذب جهاز التسجيل باتجاهه وشرع يملي بأسلوب الأخ الكبير المألوف: وهو أسلوب عسكري ومتحذلق في آن. وبسبب لجوئه لحيلة طرح الآسئلة ثم تقديم الأجوبة الفورية عليها بنفسه ، (مثل أتدرون أي الدروس يمكن أن نستخلصها أيها الرفاق؟ إن الدرس - والذي يكوّن أحد مبادىء الاشتراكية الإنجليزية - هو)، فقد كان من السهل تقليده .
في الثالثة من عمره ترك الرفيق أوغيلفي كافة لعب الأطفال ما عدا الطبلة والرشاوش ونموذج لطوافة. وفي السادسة، أو قبل سنة من ذلك، إذا تركنا جانبًا بعض قواعد الحساب، التحق بمنظمة الجواسيس، وفي التاسعة أصبح قائد مجموعة. أما في الحادية عشرة فقد وشى بعمّه إلي شرطة الفكر بعدما استرق السمع لحديث كان يبدو أنه يتضمن ميولاً إجرامية. وفي السابعة عشرة أصبح منظم مقاطعة في رابطة مناهضة الجنس، وفي التاسعة عشرة صمم القنبلة اليدوية التي كانت تتبنى مشروعها وزارة السلام، والتي تسببت أولى تجاربها في مصرع واحد وثلاثين أسيرًا من أوراسيا عند تفجيرها . وفي الثالثة والعشرين قضى نحبه وهو يؤدي الواجب. فبينما كانت تلاحقه طائرات نفاثة معادية أثناء تحليقه بطوافته فوق المحيط الهندي حاملاً وثائق هامة أثقل جسمه بالرشاش وقفز من طوافته إلى أعماق المياه مع ما كان يحمله من وثائق. إنها نهاية بطولية نموذجيّة ، حسبما يقول الأخ الكبير، لا يمكن أن يفكر فيها المرء إلا وتثير لديه مشاعر الحسد. بعدئذ أضاف الأخ الكبير بضع ملاحظات عن الطهر والإخلاص اللذين تمتع بهما الرفيق أوغيلفي في حياته. فقد كان لا يقرب الخمر ولا يدخن السجائر ولا يلتمس الراحة من عمله إلا ساعة واحدة في اليوم يمارس فيها الرياضة، فضلاً عن أنه نذر نفسه للعزوبة معتقدًا أن الزواج ورعاية الأسرة لا يناسبان شخصًا مثله ، لقد وهب نفسه للواجب أربعًا وعشرين ساعة في اليوم. ولم يكن له حديثًا إلا الحديث حول مبادئ الاشتراكية الانجليزية، ولا هدفه له في الحياة إلا إلحاق الهزيمة بالعدو الأوراسي وتعقسب الجواسيس والمخربين ومجرمي الفكر والخونة بشكل عام.

فكر ونستون في نفسه ما إذا كان سيمنح أوغيلفي وسام الاستحقاق، ولكنه عدل في النهاية عن تلك الفكرة لأنها ستجر وراءها مراجعة سجلات هو في غنى عنها. ومرة ثانية رفع ناظريه صوب منافسه في لاحجرة المقابلة، وكان ثمة شيء في نفسه يقول له إن تيلوتسون منهمك في العمل ذاته الذي يؤديه هو. لكن لم يكن ثمة طريقة لمعرفة أيّ عمل سيتم تبنّيه في النهاية، غير أنه كانت لديه قناعة راسخة بأن عمله هو الذي سيتم اعتماده. فالرفيق أوغيلفي، الذي كان منذ ساعة لا يردّ حتى على خيال، أصبح حقيقة راسخة الآن. وفكر ونستون كيف أنه يمكنك أن تبعث الحياة في الموتى بدون أن يمكنك ذلك مع الأحياء. فالرفيق أوغيلفي، اللذي لم يسبق أن كان له وجود في الحاضر، أصبح الآن موجودًا في الماضي، وحينما ينسى الناس عملية التزوير ويطويها النسيان، فلسوف يصبح وجوده يضاهي وجود كلٍّ من شارلمان أو يوليوس قيصر في صحته و ثبوته.

الجزء الأول - الفصل 5

الفصل الخامس



في قاعة الطعام ذات السقف المنخفض، تحت سطح الأرض، كان يتحرك ببطء. فالقاعة كانت تغص بمن فيها والضجيج يصم الآذان . ومن فوق قضبان طاولة توزيع طعام الغداء كانت أبخرة الطعام المسلوق تتصاعد بقوة ، مصحوبة برائحة حمضية لاذعة ، مع ذلك لم تتغلب على رائحة خمر النصر. وفي الجانب الأقصى من القاعة كان هنالك ثقب صغير قي الحائط حيث يستطيع المرء شراء قدح مترع بالخمر مقابل عشرة سنتارت.
«ها هو للرجل الذي كنت أبحث عنه» صاح صوت يأتي من خلف ونستون.
استدار ونستون وإذا به يجد صديقه القديم سايم الذي يعمل في دائرة البحوث . (ربما كانت كلمة «صديق» ليست بالكلمة الدقيقة تمامًا، ففي هاتيك الأيام لم يكن للمرء أصدقاء، بل رفاق. غير أنه كان من بين الرفاق مَن رفقته ألطف من رفقة غيره). كان سايم لغويًا اختصاصيًا في اللغة الجديدة . إنه بالفعل أحد أعضاء فريق ضخم من خبراء يعكفون الآن على جمع وتصنيف الطبعة الحادية عشرة من قاموس اللغة الجديدة. كان سايم مخلوقًا وضئيل الجسم ، أصغر حجمًا من ونستون ذا شعر أسود وعينين واسعتين جاحظتين عليهما مسحة من الحزن المفعم بالسخرية، تبدوان كأنهما تتفحصان وجهك اثناء حديثه إليك.
ابتدره سايم قائلاً: «كنت أود أن أسألك ما إذا كان لديك شفرات حلاقة».
«ولا واحدة» قال ونستون بشيء من العجالة والشعور بالذنب، «لقد بحثت في كل مكإن، لكنها لم تعد موجودة الآن».
كان الجميع لا يكفون عن السؤال عن شفرات الحلاقة، وكان ونستون في حقيقة الأمر لديه شفرتان لم يستعملهما بعد، غير أنه يدخرهما لوقت تمس فيه الحاجة. كان ثمة نقص حاد في الشفرلت منذ أشهر مضت. فدائمًا كان هنالك سلعة من السلع الضروية التي لم تعد متاجر الحزب تزوّد المواطنين بها. تارة تكون الأزرار، وتارة خيطان الصوف الخاص برتق الملايس، وأخرى رباطات الأحذية، أما الآن فهي شفرات الحلاقة التي لا يمكنك للعثور عليها إلا باستجدائها بصورة شبه سرية من السوق السوداء.
وأضاف ونستون كاذبًا: «إنني استعمل الشفرة نفسها منذ ستة أسابيع».
تحرك الصف مرة أخرى للأمام. وعندما توقف التفت ونستون إلى سايم ثانية. تناول كل متهما صينية معدنية سطحها لزج من أثر الشحوم، من كومة صينيات على حافة الطاولة.
بادر سايم بالسؤال: «هل ذهبت ورأيت السجناء وهم يشنقون البارحة؟»
قال ونستون بشيء من اللامبالاة: «كنت في العمل، الأرجح أني سأشاهدهم على الشاشة.»
فردّ سايم: «إن ذلك لا يغني أبدّا».
وكانت عيناه الساخرتان تحدقان بوجه ونستون وكأنهما تقولان له: «أنا أعرفك، وأرى ما في داخلك، وأعرف جيدًا لماذا لم تذهب لمشاهدة السجناء ينشنقون.» على المستوى الفكري، كان سايم شديد الولاء لأيديولوجية الحزب، إذ تراه يتكلم بشماتة وبابتهاج كريهين عن غارات شنّتها الطوافات على قرى العدو وعن المحاكمات والاعترافات التي أدلى بها مجرمو الفكر، وعن الإعدامات التي تنفذ داخل زنزانات وزارة المحبة. أما إذا أردت أن تتكلم إليه، فإن ذلك يتوقف على مدى قدرتك على الانتقال بالحوار لموضرع آخر لإبعاده عن مثل هذه المواضيع واستدراجه، إذا أمكن ذلك، للحديث عن جماليات اللغة الجديدة التي كان مولعًا بها وبارعًا فيها. أشاح ونستون بوجهه جانبًا ليتحاشى النظرة الفاحصة لعيني سايم الواسعتين السوداوين.
قال سايم معقبًا: «كانت عملية شنق جيدة ، غير أنهم على ما أعتقد أفسدوها بربط القدمين معًا، كنت أحب أن أراهم وهم يرفسون بها. لكن اللحظة الأكثر إثارة كانت تأتي في النهاية، وذلك حينما يتدلى اللسان إلى الخارج وقد أصبح داكن الزرقة. إن تلك اللحظة هي التي تحوز إعجابي.»
«التالي من فضلكم» صاح العامل ذو المريلة البيضاء وبيده مغرفة.
دفع كل من ونستون وسايم بصينيته تحت القضبان فوضع لكل منهما بسرعة الوجبة المقررة: قصعة معدنية من طعام مسلوق ذي لون قرمزي رمادي، وكسرة من الخبز، ومكعب من الجبن، وفنجان من قهوة النصر الخالية من الحليب، وقطعة سكر واحدة.
قال سايم: «هنالك طاولة شاغرة تحت شاشة الرصد، لنأخذ في طريقنا إليها قدحين من الخمر».
كانت الخمر تقدم لهم في أقداح من الصيني بلا مقايض. وشقا طريقهما عبر القاعة الغاصة بالناس ، ثم وضع كل منهما صينيته على الطاولة ذات الغطاء المعدني، والتى كانت تغطي إحدى زواياها مستنقعات صغيرة من حساء خلّفه بعضهم، بد وكأنه طعام تقيأه شخص ما. أخذ ونستون قدحه من الخمر، وبعد أن توقف لحظة ليستجمع قواه تجرع تلك المادة ذات الطعم الزيتي جرعة واحدة . وعندما نفرت الدموع من عينيه، أحس فجأة أنه كان جائعًا. فأخذ يزدرد الحساء الذي كانمت تخالطه مواد لزجة على هيئة مكعبات هلامية ذات لون وردي ربما كانت بعض مستحضرات اللحم. وإلى أن أتى كل منهما على قصعته دون أن ينطق بكلمة. ومن الطاولة الواقعة إلى اليسار من ونستون، وراء ظهره بقليل، كان شخص ما يتكلم على نحو سريع ومستمر، وبجعجعة تشبه صوت بطة، تخترق صخب القاعة كلها.
سأل ونستون بصوت عال ليتغلب على جلبة المكان: «أين وصلت بالمعجم؟»
قال سايم: «إنني أتقدم ببطء. إنني لي باب النعورت. إنه عمل جذّاب.»
وتألق وجهه مباشرة لدى ذكر اللغة الجديدة، فأزاح القصعة جانبًا وتناول كسرة خبز بيد وباليد الأخرى قطعة جبن، وانحنى برأسه على الطاولة حتى يتسنى له الحديث بصورت منخفض.
وقال: «الطبعة الحادية عشرة هي طبعة نهائية، إننا نصوغ اللغة في شكلها النهائي، ذلك الشكل الذي لن يجري حديث بغيره. عندما نفرغ منه، فإنه سيتحتم على الآخرين من أمثالك أن يتعلموا من جديد مرة ثانية. لعلك تظن أن مهمتنا الرئيسية هي ابتكار كلمات جديدة، لكن لا، ليس البتة، ننا نقوم بتدمير الكبمات - عشرات بل مئات الكلمات كل يوم يجري تدميرها. إننا - نسلخ - اللغة حتى العظام . فالطبعة الحادية عشرة لن تحتوي على كلمة واحدة يمكن أن يبطُل استخدامها قبل عام 2050.»
ثم أخذ يقضم قطعة الخبز ويبتلعها بنهم ، وواصل الحديث بشيء من الحذلقة، وقد بدأ وجهه الأسمر الرقيق مفعمًا بالحيوية، وقد زالت النظرة الساخرة من عينيه، وحتالّ مكانها هدوء حالم.
وأضاف بعد تفكير: «إن تدمير الكلمات شيء جميل. بالطبع فإن نسبة الفقد الأكبر تكون في الأفعال والنعورت، إلا أن هناك الكثير من الأسماء التي يمكن التخلص منها أيضًا، إضافة إلى المفردات والأضداد . ترى ما هو مبرر وجود كلمة هي مجرد نقيض لأخرى؟ فكل كلمة تحمل نقيضها في نفسها. خذ مثلا كلمة «جيدا إذا كان لديلي كلمة مثل «جيد»، ما هي الحاجة إذن إلى كلمة مثل «رديء»؟ إن كلمة «غير جيد» تؤدي المعنى تمامًا بل إنها أفضل لأنها تحمل المعنى المضاد تمامًا، بينما لا تؤديه الأخرى بالتمام نفسه. ثم أيضًا إذا أردات تعبيرًا أقوى لكلمة «جيد»، ما فائدة أن يكون لديك كل هذه السلسلة من الكلمات الغامضة غير المجدية مثل «ممتاز» و«رائع» وما شاكلها؟ ألا تغطي كلمة «جيد جدًا» المعنى، أو كلمة «جيد جدًا جدًا» إنا كنت ترغب في معنى أقوى. من المؤكد أننا نستعمل هذه الصيغ ولكن في الطبعة النهائية من قاموس اللغة الجديدة سوف لن تكون موجودة . وفي النهاية سيكون مفهومنا للجودة والرداءة محكومًا كلية بست كلمات فحسب - أو في الواقع بكلمة واحدة. ألا ترى ذلك أمرًا رائعًا يا ونستون؟ لقد كانت الفكرة في الأصل من بنات أفكار الأخ الكبير».
لاح شيء من الحماس المفتعل على وجه ونستون لدى سماعه ذكر الأخ الكبير، إلا أن سايم استطاع رغم ذلك أن يتبين على الفور فتورًا في هذا الحماس.
وأردف قائلاً وعلى وجهه علائم الأسف:«يبدو أنك لا تقدر اللغة الجديدة حق قدرها يا ونستون. حتى عندما تكتبها فإن تفكيرك يظل محكومًا باللغة القديمة . إنني أقرأ تلك الفقرات التي تكتبها من حين لآخر «التايمز». إنها جيدة نوعًا ما غير أنها تظل أشبه بالترجمة. إنك في داخلك تميل إلى استخدام اللغة القديمة رغم كل ما تحمله من غموض وظلال المعاني غير المجدية. أنت لا تدرك روعة تدمير الكلمات. هل تعرف أن اللغة الجديدة هي اللغة الوحيدة في العالم التي تتناقص مفرداتها عامًا بعد عام؟»
كان ونستون يعرف ذلك بالتأكيد. فابتسم ولم يعلّق، آملا الحصول على بعض التعاطف، وخوف أن يخونه لسانه. قضم سايم كسرة أخرى من الخبز الأسمر ثم ابتلعها سريعًا وتابع قائلاً:
«ألا ترى أن الغاية النهائية للغة الجديدة هي التضييق من آفاق التفكير؟ بحيث تصبح جريمة الفكر في نهاية المطاف جرمًا مستحيل الوقوع من الناحية النظرية، وذلك لأنه لن توجد كلمات يمكن للمرء من خلالها أن يرتكب هذه الجريمة . فكل مفهوم يحتاج إليه الناس سيتم التعبير عنه بكلمة واحدة محددة المعنى وغير قابلة للتأويل، أما معانيها الفرعية فيتم طمسها حتى تصبح طي النسيان . إننا في الطبعة الحادية عشرة لن نكون بعيدين عن هذا الهدف. ولكن تلك العملية ستستمر على هذا المنوال إلى أمد حتى بعد رحيلنا أنا وأنت عن هذا العالم. فالكلمات تتناقص عامًا بعد عام، كما يتضاءل مدى الوعي والإدراك شيئًا فشيئًا . بل وحتى في الوقت الراهن ليس هنالك سببًا أو عذر يبرر اقتراف جريمة الفكر. لقد باتت المسألة مجرد انضباط ذاتي وضبط يفرضه المرء على واقعه، وفي النهاية لن تكون هنالك حاجة حتى لذلك. ستبلغ الثورة أوجها حينما تكتمل اللغة ويتم إتقانها. إن الانجسوك هي اللغة الجديدة واللغة الجديدة هي الانجسوك. قال هذه العبارة وهو في غاية النشوة، ثم أردف: «هل خطر لك أبدًا يا ونستون انه مع حلول عام 2050 على أقصى حد ، لن يتبقى على وجه الأرض إنسان يمكنه فهم حديث كهذا الذي نتبادله معًا الآن؟»
وعلق ونستون قائلاً: «ولكن دعنا نستثني ... » قالها مرتابًا ولم يكملها.
لقد كان على وشك القول: «نستثني عامة الناس» لكنه تدارك نفسه حينما استشعر أن هذه الملحوظة قد تُؤول بطريقة ما باعتبارها نقصًا في الولاء لديه. ولكن سايم مع ذلك قد استشف ما كان يهمّ بقوله.
وقال غير عابئ: «إن أبناء عامة الناس ليسوا بشرًا. لكن مع حلول عام 2050 أو ربما قبل ذلك، سوف نكون المعرفة الحقيقية باللغة القديمة قد تلاشت، وسيكون كل التراث الأدبي القديم قد اندثر. ولما أعمال تشوسر وشكسبير وملتون وبايرون فلن يكون لها وجود إلا عبر تراجم اللغة الجديدة، ولن يقف التغيير الذي سيلحق بها عند مجرد جعلها تختلف عما كانت عليه، بل سيتحول إلى نقيض ما اعتاده الناس. وحتى أدبيات الحزب ستتغير، وشعاراته ستتبدل. إذ كيف يمكن أن تتبنى شعارًا مثل: «الحرية هي العبودية» فيما يكون مفهوم الحرية نفسه قد جرى نسفه؟ إن المناخ الفكري سيكون كله قد تغير. وفي الحقيقة لن يكون هنالك «تفكير» على النحو للذي نفهمه الآن، فالولاء يعني انعدام التفكير بل انعدام الحاجة للتفكير. الولاء هو عدم الوعي.»
وفجأة وبقناعة راسخة فكر ونستون أن سايم لا بد وستتم تصفيته يومًا ما. إنه متوقد الذكاء. إنه يرى ببصيرة نافذة ويتحدث بصراحة شديدة. والحزب لا يرغب في وجود مثل هؤلاء. يومًا ما سيختفي من الوجود، ذلك ما أراه مكتوبًا على جبينه.
بعدما أنهى ونستون ما كان بين يديه من خبز وجبن، استدار جانبًا وهو على كرسيه ليحتسي قهوته . وعلى الطاولة للواقعة عن يساره ما زال الرجل ذو الصوت الصاخب يتكلم دون رادع أو وازع . وكانت تجلس إلى جواره فتاة شابة، ربما تكون سكرتيرته، وظهرها إلى ونستون . كانت تصغي إليه ويبدو عليها أنها توافقه بحماس على كل ما يقوله. وبين الفينة والأخرى كان ونستون يلتقط بعض ما تتلفظ به الفتاة من عبارات مثل «أعتقد أنك محق تمامًا، إنني أتفق معك كلية» كانت تقولها بصوت أنثوي سخيفة وحيّ. لكن الصوت الآخر لم يتوقف عن الكلام ولو لحظة واحدة، حتى عندما كانت تتكلم الفتاة. كان ونستون يعرف هذا الرجل، لكنه لا يعرف عنه أكثر من أنه يشغل منصبًا هامًا في دائرة الإثارة.
كان يناهز الثلاثين من العمر، ذا رقبة قوية العضلات وفم واسع كثير الحركة. كان من عادته أن يلقي برأسه إلى الوراء قليلاً وهو يتحدث. وبسبب الزاوية التي يأخذها أثناء جلسته كانت النظارتان تلتقطان الضوء وتعكسانه شعاعًا باتجاه ونستون مما جعله يرى عينيه كأنهما مجرد عدستين. ولكن المزعج في الأمر أنه كان من المستحيل تقريبًا أن تميز كلمة واحدة من بين ذلك السيل من الكلمات المتدفقة من فمه. ومرة واحدة فقط تمكن ونستون من التقاط جملة - «إبادة تامة ونهائية لغولدشتاين» - قيلت على نحو سريع جدًا. وأما بقية كلامه فقد كان مجرد ضجيج وجعجعة. وبالرغم من أنك لم تكن تستطيع فعليًا أن تميز ما يقوله الرجل، فإنك لن تكون في ريب من طبيعته العامة. ربما كان يهاجم لغولدشتاين ويطالب باتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد مجرمي الفكر والمخربين، وربما كان يندد بالفظائع التي ارتكبها الجيثر الأوراسي ، وربما كان يثني على الأخ الكبير أو المقاتلين الأبطال على جبهة مالابار، إذ ليس هنالك من فرق. وأيًا كان حديثه ، فإن ما يمكن أن تكون على يقين منه هو أن كل كلمة من حديثه كانت تنبع من ولاء خالص لمبادى الانجسوك الصحيحة. وفيما كان ونستون يراقب ذلك الوجه الخالي من العينين، والفكين المتحركين إلى أسفل وأعلى، أحس ونستون شعورًا غريبًا وهو أن هذا الذي يراه ليس إنسانًا حقيقيًا وإنما نوع من الدمية؛ إن لم يكن عقله هو الذي يتكلم، بل حنجرته، ولم يكن ما ينطق به حديثا بالمعنى الحقيقي، بل ألفاظًا معزولة وصخبًا يصدر عن حالة من اللاوعى وأشبه بصورت بطة.
خيم الصمت على سايم لحظة من الزمن، وبملعقته كان يتتبع البقايا الموجودة في طبق الحساء، فيما واصل الصوت القادم من الطاولة الأخرى الجعجعة بسرعة وكان يسمعه ونستون بسهولة رغم كل الضجيج الذي تعج به القاعة.
وهنا تدخل ونستون قائلاً: «هناك كلمة في اللغة الجديدة لا أدري ما إذا كنت تعرفها، إنها «يوقوق» أي يجعجع مثل البطة. إنها واحدة من هاتيك الكلمات المثيرة التي تحمل معنيين متناقضين، فإن نعتّ بها خصمًا فهي سباب ، وإن نعتّ بها شخمًا تتوافق معه فهي ثناء.»
وجال في خاطر ونستون مرة ثانية أن سايم ستتم تصفيته. خامرته هذه الفكرة وشعر بالحزن مع أنه كان يعرف أن سايم يزدريه ويكرهه نوعًا ما، ولديه القدرة على الوشاية به بتهمة «جريمة فكر» إذا رأى دافعًا لذلك. كان لدى سايم بعض المثالب. لقد كان يفتقر لخصال الحذر والتحفظ ويفتقر أيضًا إلى بعض الغباء الذي يحفظ حياة صاحبه. ولا يمكنك القول بأن سايم لم يكن صادق الولاء. فقد كان يؤمن بمبادئ الانجسوك، ويبجّل الأخ الكبير ويهلل للانتصارات، ويكره المنشقين عن الحزب، ليس يإخلاص عادي فحسب بل بحماس شديد، وكان يحرص على الاطلاع على أحدرت المعلومات التي لم يكن عضو الحزب العادي يلتفت إليها. بيد أن سمعته كانت تحوم حولها الشكوك؛ فقد كان يقول أشياء يَحسُن به ألا يقولها، وقرأ كتبًا كثيرة للغاية، وكان يرتاد مقهى شجرة الكستناء، منتدى الرسامين والموسيقيين. لم يكن ثمة قانون مكتوب أو حتى غير مكتوب يحظر التردد على هذا المقهى، ومع ذلك كان مكانًا لا يستساغ الذهاب إليه. لقد كان يلتقي فيه قادة الحزب القدامى الذين تم تشويه سيرتهم قبل أن تتم تصفيتهم أخيرًا. ويقال إن غولدشتاين نفسه كان نرى هناك منذ سنين أو عقود. لم يكن التنبؤ بالمصير الذي سيؤول إليه سايم أمرًا صعبًا. ومع ذلك كان من الثابت أن سايم لو لمح شيئًا عن طبيعة ما يضمره ونستون من آراء ، فإنه لم يكن ليتردد لحظة عن الوشاية به إلى شرطة الفكر. وكذلك سيفعل أي شخص آخر قي موقفه، لكن سايم كان أكثر حماسًا للحزب، والحماس وحده لا يكفي، والولاء المطلق يعني انعدام الوعي.
تطلع سايم وقال: «ها هو ذا بارصون قادمًا». وكان يبدو من لهجته وكأنه يود أن يضيف «الأحمق بارصون». كان بارصون، جار ونستون في بنايات النصر يشق طريقه عبر القاعة. إنه رجل بدين، قصير، متوسط الحجم ذو شعر أشقر ووجه كوجه الضفدعة. كان جسمه يحمل المزيد من الشحوم في رقبته وخاصرته، إلا أنه ظلّ نشيطًا كصبيّ كثير الحركة. مظهره كله عبارة عن مظهر فتى صغير نما بسرعة وكبر بحيث إنه رغم ارتدائه زي العمل المعتاد ما كان بوسعك أن تفكر فيه إلا وكأنه يرتدي السروال الأزرق والقميص الرمادي ورباط العنق الأحمر كأحد أعضاء اتحاد الجواسيس. ولدى رؤيته يرى المرء دائمًا صورة ركبتين مجوفتين وكُمّين يتدليان من ساعدين قصيرين ممتلئين. كان بارصون يعود لارتداء السروال القصير داومًا كلما خرج في نزهة جماعية أو أي أنشطة بدنية أخرى تبرر له ذلك. تقدم نحوهما وحياهها مبتهجًا ثم جلس إلى الطاولة تضرح منه رائعة عرق كثيفة، وتغطي وجهه القرمزي حبات من الرطوبة . . في «المركز الاجتماعي» كان بوسعك أن تخمن أن. بارصرن يلعب كرة تنس الطاولة بمجرد إمساكك بيد المضروب التي رطّبها عرقه. أخرج سايم من جيبه ورقة تحوي قائمة طويلة من الكلمات التي يدققها وقلمه الجاف بين اصبعيه.
وقد علق بارصون على ذلك غامزًا ونستون: «انظر إليه، إنه يدرس حتى في استراحة الغداء، أي حرص هذا؟ ماذا هناك أيها الصبي العجوز؟ شيء ما يصعب عليّ فهمه ، على ما أعتقد». ثم قال لونستون: «أيها الصبي العجوز، هل تدرك لماذا ألاحقك؟ إنه التبرع الذي نسيت أن تعطيني إياه.»
وردّ عليه ونستون متسائلاً: «لأي شيء هذا التبرّع؟» قالها وهو يتحسس ما لديه من مال في جيبه. إذ إن ربع الراتب يجب اقتطاعه لسداد التبرّعات التي يعجز المرء عن إحصائها.
فأجابه بارصون: «تبرّع «للأسبوع الكراهية». لعلك سمعها بصندوق البيوت، إنني أمين صندوق بنايتنا. إننا نبذل جهودًا جبارة لجمع المال من أجل إقامة عرض هائل. أودّ أن تعلم أنه لن يكون خطئي إنا لم تظهر بنايات النصر بالمظهر اللائق ولم يُعلَّق عليها أكبر عدد من الأعلام في الشارع كله، من فضلك دولارين.»
مدّ ونستون يده إلى جيبه وأخرج دولارين مجعدين ومتسخين، قام بارصون بتسجيلهما في دفتر صغير كتب عليه بذلك الخط المنمق الذي يكتبه نصف الأمي.
وأردف قائلاً: «بالمناسبة أيها الصبي العجوز، لقد علمت أن ولدي المشاغب قد قذفك أمس بمقلاعه الصغير؛ لقد عنّفته وعاقبته على تلك الفعلة، وأكدرت له انني سأصادر المقلاع منه إذا عاد لمثل ذلك.»
قال ونستون: «أظن أنه كان مستاءً لعدم ذهابه لمشاهدة حفلة الشنق.»
فردّ بارصون: «ذلك صحيح، ولكنهما في ذلك يظهران ما لديهما من روح عالية، أليس كذلك؟ يا لهم مسن صغار ملاعين، لكنها قوة الاندفاع، فكل ما يشغلهما هو الجواسيس والحروب. هل تعرف ماذا فعلت ابنتي الصغيرة السبيت الماضي حينما خرجت في رحلة مع مجموعتها على طريق بيركهامستد؟ لقد اصطحبت معها فتاتين صغيرتين وانسللن عن مجموعتهن وأمضين كل فترة الظهيرة في تعقب رجل غريب. لقد ظللن يقتفين آثاره لساعتين عبر الغابة، وعندما وصلن إلى قرية «أميرشم» سلّمنه لإحدى الدوريات.»
سأل ونستون مشدوها: «ولكن ما الذي دعاهن لذلك؟» فتابع بارصون حديثه معتزًا وقد أخذته النشوة: «ولقد تحققت ابنتي من أنه عميل للأعداء ربما أنزلته طوافة. والنقطة اللافتة للانتباه أيها الصبي العجوز، هي ما الذي جعلها تشكيك فيه من البداية؟ لقد لاحظت أنه يلبس نوعًا غريبًا من الأحذية ، لم تر أحدا يلبس مثلها من قبل. ومن هنا جاء ظنها بأنه أجنبي. إنها ملاحظة ذكية من صغيرة مثلها في السابعة من عمرها، أليس كذلك؟»
قال ونستون: «وماذا حدث للرجل؟»
«هذا ما لا أعرفه على وجه التأكيد، ولكنني لن استغراب إطلاقًا إذا . . . » وهنا أكمل بارصون بالإشارة جاعلاً أصابعه على شكل مسدّس، ثم طقطق بلسانه مقلدًا صوت الرصاص.
«حسنًا» علق ونستون دون أن يرفع نظره من على الورقة التي بين يديه.
ثم أكمل ونستون بنوع من الشعور بالواجب: «من المؤكد أننا لا يمكننا الدخول في مخاطرات»
قال بارصون: «إننا في حالة حرب».
وكما لو أنه تأكيد لحالة الحرب، انبعث نفير بوق من شاشة الرصد التي فوق رؤوسهم مباشرة، غير أنه لم يكن إعلانا عن انتصار عسكري هذه المرة، بل مجرد بيان من وزارة الوفرة.
وصاح صوت شبابي متحسس: «أيها الرقاق، انتبهوا، وردتنا أنباء رائعة لكم. لقد انتصرنا في معركة الإنتاج. فتقارير الإنتاج التي استُكملت الآن لكافة السلع الاستهلاكية تُظهر أن مستوى المعيشة قد ارتفع بما لا يقل عن 20% عما كان عليه في العام الماضي. وقد عمّت أرجاء البلاد مسيرات عارمة وعفوية هذا الصباح في كل أوقيانيا، حيث انطلق العمال من مصانعهم ودوائر عملهم وساروا في الشوارع حاملين الرايات وهاتفين بحياة الأخ الكبير امتناناً له على الحياة الجديدة السعيدة التي وهبهم إياها بفضل قيادته الحكيمة. وفيما يلي بعض هده الأرقام: المواد الغذائيية...»
كانت عبارة «الحياة الجديدة السعيدة» من العبارات التي تتردد كثيراً، حيث باتت مؤخراً من العبارات المحبذة لدى وزارة الوفرة. جلس بارصون، وقد شد انتباهه صوت البوق، مصغياً وقد ارتسمت على وجهه علائم الجدية المشدوهة والسأم المتعالي. لم يستطع متابعة الأرقام، لكنه كان يدرك أنها تبعث على الرضا، وأخرج من جيبه غليونا كبيراً وسخا كان محشواً حتى نصفه بالتبغ المفحّم؛ فمع تخفيض حصة الفرد من التبغ إلى مائة غرام في الأسبوع، بات من الصعب ان تملأ غليونك حتى حافته. أما ونستون فكان يدخن سيجارة النصر التي يمسكها بحذر في وضع أفقي لئلا يتناثر تبغها. والحصة الجديدة من السجائر لن يُشرع في توزيعها إلا صباح غد، وهو لم يعد لديه سوى أربع سجائر. في هذه اللحظة سدّ أذنيه عن الضجيج الآتي من بُعد وأرهف السمع إلى ما تذيعه شاشة الرصد عن مسيرأت شكر للأخ الكبير على رفعه حصة الشوكولاتة إلى عشرين غراماً في الأسبوع. فحدث نفسه: كيف ذلك؟ لم يكن قد مر سوى يوم واحد على نبأ تخفيضها إلى عشرين غراماً أسبوعياً! فهل يمكن أن يكون الناس قد تناسوا ذلك وابتلعوه في أربع وعشرين ساعة فقط؟ أجل، لقد تناسوا. لقد تناسى بارصون ذلك الكذب بسهولة وابتلعه بغباء الحيوان. أما ذلك المخلوق الذي لا عينين له والجالس إلى الطاولة الأخرى فقد ابتلعه بحماس وتعصب ورغبة متقدة في تعقب كل من تسول له نفسه أن يشير إلى أن الحصة كانت ثلاثين غراماً في الأسبوع الماضي لأجل الوشاية به وتصفيته. بل إن سايم نفسه، ولكن بطريقة أكثر تعقيداً تنطوي على شيء من التفكير المزدوج، ابتلعه هو أيضاً. فهل أنا الوحيد الذي ما زلت أحتفط بذاكرني؟
واصلت الإحصائيات الوهمية تدفقها من شاشة الرصد. فمقارنة بإحصائيات العام المنصرم، هنالك ازدياد في الغذاء والملابس والبيوت والأثاث وأواني الطهي والوقود والسفن والطائرات والكتب والمواليد، ازدياد قي كل شيء ما عدا المرض والجريمة والجنون. وسنة بعد سنة ودقيقة بعد دقيقة، كان كل شيء وكل إنسان آخذ في الصعود بسرعة مطردة.
على غرار ما فعل سايم قبل قليل، أمسك ونستون بملعقته وغمسها في المرق الأصفر ثم رفعها إلى فمه راسماً خطاً طويلاً من المرق على الطاولة. وتمعّن باستياء في الحياة التي يحياها. وتساءل أهكذا كانت الحياة دائماً؟ هل كان مذاق الطعام رديئاً كما هو الآن؟ وألقى نظرة حوله في المطعم فوجد قاعة مزدحمة، سقفها منخفض، وقد اكتست جدرانها بالسخام من أثر أيادٍ وأجسام لا تحصى، وامتلأت بكراس وطاولات
معدنية مهشمة وُضعت بشكل متلاصق بحيث تتصادم أكواع الجالسين أثناء الطعام. كما رأى ملاعق مثنية وصواني منبعجة وأباريق خشنة بيضاء. كانت كل السطوح ذات ملمس لزج من أثر الشحوم، فالوسخ يتخلل ما بها من تشققات، كما كانت تفوح من القاعة رائحة حمضية تنبعث من الخمرة والقهوة الرديئتين ومن الملابس المتسخة. كان المرء يحس دائماً بأصوات احتجاج تنبعث من معدته ومن تحت جلده، ويشعر بأنه قد سُلب شيئاً كان من حقه الحصول عليه. صحيح أنه لا يذكر أن الأحوال كانت تختلف عن ذلك كثيراً، فكل ما يمكنه تذكره بصورة واضحة هو أن النقعص في الطعام كان دائماً. لم يكن يوجد جوارب أو ملابس داخلية ليست مليئة بالرتوق. والأثاث كان دائماً مهشماً عتيقاً، والغرف بلا تدفئة، وقطارات الأنفاق مزدحمة، والبيوت متداعية آيلة للسقوط. لقد بات الخبز أسود اللون، والشاي نادر الوجود، والقهوة متعفنة الطعم، والسجائر غير كافية. ولم يكن من شيء وفير ورخيص سوى الخمرة المصنعة كيماوياً. ولئن كانت الأوضاع تسير من سيّئ إلى أسوأ مع تقدمه في السن، فهل كانت هنالك دلائل تشير إلى أن ذلك لم يكن الوضع الطبيعي للأمور؟ فإذا كان قلب المرء يتألم لوجود كل هذه المنغّصات: شتاءات طويلة وقذارة جوارب، ومصاعد معطلة دائماً، وماء بارد، وصابون خشن، وسجائر تتفتت، وطعام رديء ذي مذاق غريب.. هل كان المرء يضيق ذرعاً بتلك الأوضاع التي لا تطاق لو لم تكن لديه ذاكرة ما توحي إليه بأن الأمور كانت تختلف عما هي عليه الآن؟
ألقى نظرة أخرى حوله في المطعم، فبدا له أن كل الأشخاص كانوا قبيحي الشكل، وأن هذا القبح لن يزول حتى لو ارتدوا ملابس أخرى وخلعوا الزي الأزرق المعهود. في الجانب الأبعد من القاعة كان رجل ضئيل الجسم مثير للاستغراب يشبه الخنفساء يجلس إلى طاولة بمفرده ويحتسي فنجاناً من القهوة وعيناه الصغيرتان ترسلان نظرات مرتابة من جهة لأخرى. وجال بخاطر ونستون لو أن النموذج الجسدي الذي حدده الحزب هو النموذج المثالي، حيث يكون الفتيان يافعين ومفتولي العضلات، وتكون الفتيات العذارى مكتنزات الصدور وشقراوات الشعر ومفعمات بالحيوية وقد أكسبتهن الشمس سمرة وأصبحن متحررات من القلق. أما في الواقع وبقدر ما يستطيع أن يحكم، فإن غالبية الناس في القطاع الهوائي رقم واحد كانوا ضئيلي الأجسام وذوي بشرة سمراء وقبيحي الشكل. وكان مما يبعث على الاستغراب، الكيفية التي تمكن من خلالها ذلك النمط الخنفسائي الشكل من النفاذ إلى الوزارت: حيث ترى فيها رجالاً قصاراً، سماناً يسمنون في وقت مبكر جدًا، ذوي سيقان قصيرة وحركات سريعة زاحفة ووجوه ممتلئة وعيون صغيرة للغاية. إنه النمط الذي يزدهر بصورة أفضل في ظل هيمنة الحزب.
اختُتم بيان وزارة الوفرة ببوق آخر وحلّت محله موسيقى خفيفة. وأخرج بارصون، وقد أثاره هول أرقام الإنجازات وحرك فيه حماسه الفاتر، أخرج غليونه من فمه. وقال وهو يهز رأسه هزة العارف: «من المؤكد أن وزارة الوفرة قد أبلت بلاء حسناً هذه السنة. بالمناسبة أيها الصبي العجوز، هل لديك شفرات حلاقة يمكنك أن تعطيني واحدة منها؟»
أجاب ونستون: «لا، ولا واحدة، إنني أستعمل الشفرة نفسها منذ ستة أسابيع، آسف».
وعاد من جديد ذلك الصوت المجعجع الآتي من الطاولة المجاورة بعدما كان توقف مؤقتا أثناء إذاعة بيان الوزارة. ولسبب ما وجد ونستون نفسه يفكر في مسز بارصون، بشعرها الملفوف وبالغبار الذي يتخلل تغضّنات وجهها. أظن أنه في غضون عامين سيشي بها أطفالها إلى شرطة الفكر. وبعدئذ سيتم تصفيتها، كما ستتم تصفية سايم وونستون وأوبراين. أما بارصون فلن يحدث له شيء من ذلك أبدًا. كما أن ذلك المخلوق الذي بلا عينين صاحب الصوت المجعجع لن تتم تصفيته، وكذلك لن تتم تصفية هؤلاء الرجال القصار شبيهي الخنافس الذين يتحركون داخل الردهات الملتوية في الوزارات. وأيضاً تلك الفتاة ذات الشعر الأسود التي تعمل في دائرة الإثارة، لن تتم تصفيتها. بدا له أنه يعرف بالفطرة من سيبقى ومن سيفنى بالرغم من أنه لم يكن من السهل التكهن بمن سيُقدّر له البقاء.
في هذه اللحظة أفاق من تأملاته بهزة عنيفة. فالفتاة الجالسة إلى الطاولة المجاورة التفتت نصف التفاتة وهي تتطلع إليه، وكانت هي نفسها الفتاة ذات الشعر الأسود. كانت تنظر إليه بطرف عينيها ولكن بتركيز مستغرب. وكلما التقت عيناها بعينيه كانت تحيد بطرفها عنه.
أحسّ ونستون إذ ذاك بالعرق يتصبب من عموده الفقري. وسرت في أوصاله نوبة فزع شديدة. ومع أن هذه النوبة قد تلاشت سريعاً، لكنها خلّفت لديه شعورا بعدم الارتياح. وتساءل، تُرى ما الذي يجعلها تراقبه؟ ولماذا تتبعه إلى كل مكان؟ ولسوء حظه لم يستطع أن يتذكر ما إذا كانت جالسة على هذا المقعد قبل مجيئه، أم أنها قد جاءت لاحقاً. ولكنها كانت، بالأمس، تجلس وراءه مباشرة أثناء (دقيقتي الكراهية) بينما لم يكن ثمة حاجة واضحة تدعوها لذلك. من المرجح تماماً أن هدفها الحقيقي هو الإصغاء إليه والتأكد من أنه يهتف بصوت عال.
وعاودته فكرته السابقة، فقد لا تكون عضواً في شرطة الفكر، وفي هذه الحالة من المؤكد أنها من الجواسيس وهم الأشد خطراً على الإطلاق. لم يكن يعلم منذ متى وهي تتطلع إليه، لكن ربما كان ذلك لما يربو على الخمس دقائق. ومن الممكن أن تكون قد فضحته ملامح وجهه. إنه لخطر جسيم أن تدع أفكارك تجري على عواهنها حينما تكون في مكان عام أو ضمن مدى شاشة الرصد. فأهون الأشياء يمكن أن تودي بك حتى لو كانت حركة عصبية صغيرة أو نظرة قلق لا إرادية أو همهمة اعتادها المرء، أو أي شيء يوحي بنقص في الولاء. وفي كل الأحوال فإن ظهور تعبير انفعالي غير لائق على وجهك (كأن تبدو عليك علامات الارتياب حينما يتم الإعلان عن أحد الانتصارات) هو مخالفة تستوجب عقاباً، بل لقد اشتق لذلك اسم في اللغة الجديدة: جريمة الوجه.
عادت الفتاة وأدارت له ظهرها. ففكر ربما أنها لم تكن تلاحقه، وربما كان جلوسها خلفه أو قريبا منه خلال هذين اليومين محض مصادفة. انطفأت سيجارته فوضعها بعناية على طرف الطاولة، لعله يعاود تدخينها بعد انتهاء العمل إذا ليم يتناثر تبغها. قد يكون الشخص الجالس إلى الطاولة المجاورة جاسوسًا لشرطة الفكر، وربما سيجد نفسه في غضون ثلاثة أيام نزيل إحدى زنزانات وزارة المحبة، لكن عقب السيجارة يجب ألا يذهب هدراً. طوى سايم شريط الورق ووضعه في جيبه بينما بدأ بارصون يتكلم ثانية.
«هل سبق لي أن أخبرتك أيها الصبي العجوز»، قالها بارصون مبتسماً وهو يمسك بغليونه، «عمّا فعله الصغيران الشقيان، حينما قاما بإشعال النار في تنورة بائعة عجوز في السوق عندما رأياها تلفّ بعض النقانق بصورة الأخ الكبيرب؟ لقد تسللوا خلفها وأشعلوا في تنورتها النار مستخدمين علبة ثقاب. أعتقد أن التنورة قد تضررت كثيراً من ذلك. آه من هذين الشقيين، إنهما ممتلآن حماسة. لا شك أن التدريب الأولي الذي يتلقونه في منظمة الجواسيس هذه الأيام، وهو أفصل من ذاك الذي كنا نتلقاه نحن في أيامنا. هل تعرف ما الذي تم تزولدهم به مؤخراً؟ سماعات بوقية للأذن يتنصتون بها من ثقوب مفاتيح الأبواب. لقد أحضرت ابنتي الصغيرة واحدة منها أمس وجربتها على باب غرفة الجلوس، ورأت أنها تستطيع بواسطتها أن تسترق السمع ضعفي ما تسترقه بوضع أذنها على ثقب المفتاح. من المؤكد أن ذلك مجرد لعبة. لكن ألا تظن أن ذلك سيوحي لهم بأفكار مناسبة؟

في هذه اللحظة أطلقت شاشة الرصد صفرة عالية إيذاناً بالعودة للعمل. فهبّ الرجال الثلاثة من فورهم وانطلقوا يشقّون طريقهم وسط الزحام الزاحف بحثاً عن مصعد غير معطل، في حين كان ما تبقى من تبغ في سيجارة ونستون يتناثر على الأرض.