السبت، 27 مايو 2017

الجزء الأول - الفصل 4

الفصل الرابع



بتنهيدة عميقة ولاإرادية، لم يمنعه حتى قربه من شاشة الرصد عن زفرها وهو يبدأ عمل يومه، سحب ونستون جهاز التسجيل باتجاهه ثم نفخ الغبار عن مهتافه. لبس نظارتيه، وأخرج أربع لفافات صغيرة من الورق وثبتها بمشجب، وكانت هذه اللفافات قد أُلقيت من الأنبوب الهوائي الموجود إلى يمين طاولته.
في حجيرة مكتبه كانت هنالك ثلاث فتحات: عن يمين جهاز التسجيل أنبوب هوائي صغير للرسائل المكتوبة . وعن يساره أنبوب أكبر للصحف. وفي الحائط الجانبي، في متناول يد ونستون كوة كبيرة مستطيلة الشكل ومغطاة بشبكة سلكية. وهذه الأخيرة كانت للتخلص من الأوراق التالفة . كان هناللك آلاف أو عشرات الآلاف مسن هذه الكوى المتشابهة داخل البناء، ليس في الغرف فحسب، بل حتى على مسافات قصيرة قي الممر. لسبب ما كان الناس يسمونها قبور الذاكرة . فعندما كان يعرف المرء أن هنالك وثيقة تَقرر إتلافها، أو حتى عندما يرى قطعة ورق تالفة ملقاة هنا أو هناك، كان تلقائيًا يقصد أقرب قبور الذاكرة ويرفع غطاءها ثم برمي بها داخلها، حيص يحملها تيار من الهواء الدافيء إلى أفران ضخمة مخفية في تجاويف البناء.
حلّ ونستون لفافات الورق الأربع وتفحّصها. كانت كل واحدة منها تحتوي على رسالة من سطر أو سطرين فقط باللغة المختصرة ، وهيليست لغة جديدة فعليًا ولكنها تتألف في معظمها من مفردات من اللغة الجديدة. تستعمل في الوزارة للأغراض الداخلية . وكانت تجري على النحو التالي:
الزمان، 17-3-84، خطاب للأخ الكبير نقل مغلوطًا إلى افريقيا. نقّحه.
الزمان، 19-12-83، التوقعات3، ي ب، الربع الرابع، 83، أخطاء مطبعية، دققوا الإصدار الحالي.
الزمان 14-2-84، وزارة الوفرة، حصل خطأ بالشوكولا، تحققوا.
الزمان 13-2-83، نقل أمر اليوم لـ غ ك خاطئ جدًا، لا تشيروا إلى أشخاص، أعيدوا للكتابة وأتلفوا الأوراق السابقة.
بقليل من الرضا نحّى ونستون الرسالة الرابعة جانبًا، إذ كانت معقدة وعلى درجة من الأهمية تجعل من الآنسب إرجاء معالجتها إلى الآخر. أما الرسائل الثلاث الأخريات فقد كانت أمورًا روتينية الطابع، بينها واحدة توحي بوجوب الخوض قي غمار قوائم أرقام مملة .
أدار ونستون ((أرقامًا خلفية)) على شاشة الرصد طالبًا أعدادًا معينة من مسحوقة ((التايمز)) . انزلقت الصحيفة من الأنبوب الهوائي بعد بضع دقائق فقط.وكانت الرسائل التي تلقاها تشير إلى مقالات أو فقرات إخبارية سيتعين لسبب أو لآخر تعديلها ، أو على حد قول العبارة الرسمية، تصحيحها. فعلى سبيل المثال نشرت صحيفة ((التايمز)) في عددها الصادر في السابع عشر من مارس أن الأخ الكبير، في خطابه الذي ألقاه قبل يوم، تنبأ أن جبهة جنوبي الهند ستظل هادئة ، فيما ستشن أوراسيا هجومًا وشيكًا على شمال أفريقيا . ولكن ما حدث هو أن القيادة العليا الأوراسية قد شنّت هجومها على جنوب الهند وليس على شمال افريقيا . لذلك كان من الضروري إعادة كتابة الفقرة الموجودة في خطاب الأخ الكبير بالشكل الذي يظهر اأه تنبأ بما وقع فعلاًً. كما أن «التايمز» في عددها التاسع عشر من كانون الأول (ديسمبر) قد نشرات التوقعات الرسمية لإنتاج أصناف مختلفة من السلع الاستهلاكية في الربع الأخير من العام 1983 ، والذي كان قي الوقت نفسه الربع السادس من الخطة الثلاثية التاسعة . أما عدد لليوم فقد احتوى على بيان بالإنتاج الفعلي الذي تبيّن من خلاله أن التوقعات كانت خاطئة إلى حد كبير في كل جوانبها. وكانت مهمة ونستون تصحيح أرقام التوقّعات الأصلية وجعلها تتفق مع الأرقام الجديدة . أما بالنسبة إلى الرسالة الثالثة فقد كانت تثير إلى خطأ صغير جدًا يمكن تصحيحه قي غضون دقيقتين. فمنذ فترة وجيزة تعود إلى شباط (فبراير)، ىنمت وزارت الوفرة قد أصدرت وعدًا (أو حسب العبارة الرسمية «تعهدًا قاطعًا») بأنه لن يكون ثمة تخفيض في حصة الشوكولا خلال عام 1984. هذا بينما كان ونستون على معرفة بأن حصة الفرد من الشوكولا سيتم تخفيضها فعلاًً من ثلاثين غرامًا إلى عشرين بنهاية الأسبوع الحالي . ومن ثم كان يتوجب عليه هو استبدال كلمة «الوعد» المشار إليها في البيان بكلمة «تحذير» من احتمال اللجوء اضطرارًا لتخفيض حصة الشوكولا في وقت ما من نيسان (أبريل) .
وحالما انتهى ونستون من معالجة هذه الرسائل، أرفق تصحيحاته بالأعداد الخاصة بها من «التايمز» ثم دفعها في الأنبوب الهوائي . وبعدئذ، وبحركة يبدو أنها لا إرادية جعّد الرسائل الأصلية وأية ملاحظات كان قد دوّنها بنفسه ، ثم رمى بها جميعًا في أحد قبور الذاكرة لتلتهمها النيران .
أما ماذا كان يجري في المتاهة غير المرئية حيث ينتهى الأنبوب الهوائي فأمر لم يكن ونستون يعرفه بصورة مفصلة ، وإنما كان فقط يلم به إلمامًا عامًا. فحالما يتم تجميع ومقارنة كافة التصحيحات التي يصدف أن تكون لازمة في عدد من أعداد «التايمز»، يعاد طبعه من جديد، ويتم إتلاف النسخة الأصلية ووضع النسخة المصححة في ملفات المحفوظات محلها. ولم تكن عملية التبديل المتواصلة هذه تطبق على الصحف فحسب، بل كانت تطال أيضًا الكتب والدوريات والنشرات والإعلانات والأفلام وأشرطة التسجيل وأفلام الكرتون والصور وكذا كل أنواع الأدب أو الوثائق التي يمكن أن تحمل مضامين سياسية أو أيديولوجية . فيومًا بيوم وربما دقيقة بدقيقة يتم تحديث الماضي بما يجعله يتوافق والحاضر. وهكذا، فإن كافة تنبؤات الحزب يتسنى، بالدليل الوثائقي، إظهارها باعتبارها صائبة. كما أن كل فقرة إخبارية أو أي إبداء لوجهة نظر تنعارض مع مجريات الحاضر كان لا يسمح لها بالبقاء ضمن أي سجلات. فالتاريخ كله كان بمثابة لوح تم تنظيفه لإعادة النقش عليه بما تستلزمه مصلحة الحزب. وحينما يتم الانتهاء من عمل ما، فإنه يصبح من المتعذر تمامًا على أيٍّ كان الإتيان ببرهان على أن ثمة تزييفًا قد جرى . وكان أكبر الأقسام ضمن دائرة السجلات، والذي يكبر بكثير ذاك الذي يعمل به ونستون، يتألف من أشخاص مهمتهم هي تعقب وتجميع كافة نسخ الكتب والصحف وأية وثائق حلمت محلها أخرى وبارت يتعين إتلافها . وهناك مجموعة من أعداد «التايمز»، والتي ربما بسبب تغيير في التحالفات السياسية أو نبوءة كاذبة وقع فيها الأخ الكبير، قد تمّت إعادة كتابتها عشرات المرارت وما زالت محفوظة في ملفاتها حاملة تاريخها الأصلي دون أن تظهر أي نسخ أخرى تناقضها. وحتى الكتب أيضًاً كان يتم استردادها وإعادة كتابتها المرة تلو المرة، ثم إعادة طباعتها بصورة مغايرة دون الإشارة إلى أي تغييرات جرت عليها. بل وحتى التعليمات الخطية التي كان يتسلمها ونستون والتي كان يتخلص منها فور الانتهاء منها ، لم تشر من بعيد أو قريب لأي عمليات تزييف يتعين القيام بها. وكل ما كان يشار إليه داومًا هو مجرد هفوات أو أخطاء مطبعية أو اقتباسات مغلوطة يلزم تصحيحها توخيًا للدقة.
ولكن ونستون كان يعتبر، وهو يعيد ضبط أرقام وزارة الوفرة، أنذلك ليس تزييفًا، بل مجرد استبدال تفاهات بتفاهات. فمعظم المواد التي كان يتعامل معها لم تكن تمتّ بصلة لما يحصل على أرض الواقع . فالإحصائيات كانت وهمية في نسسخها الأصلية شأنها شأن نسخها المعدّلة . وفي كثير من الأحيان كان من المفترض أن تختلقها اختلاقًا من مخيلتك. فعلى سبيل المثال كانت توقعات وزارة الوفرة قد قدرت إنتاج الأحذية الربع سنوي بمائة وخمسة وأربعين مليون زوج من الأحذية، بينما كان الإنتاج الفعلي اثنين وستين مليونًا . ولدى إعادة كتابة التوقعات، خفّض ونستون الرقم إلى سبعة وخمسين مليونًا مفسحّا بذلك المجال للادعاء لاحقّا بأن ثمة فائضًا في الحصة المقررة . وعلى أي حال، فإن اثنين وستين مليونًا لم تكن أقرب إلى الحقيقة من سبعة وخمسين مليونًا أو من مائة وخمسة وأربعين مليونًا، ومن الممكن ألا يكون قد تم إنتلج أي أحذية على الإطلاق. بل وعلى الأرجح، لم يكن أحد يعرف ما تم إنتاجه أو حتى يبالي بمعرفة ذلك. فكل ما كان يعرفه المرء عن إنتاج الأحذية هو أرقام فلكية لا توجد إلا على الورق، في الوقت الذي كان زهاء نصف سكان أوقيانيا حفاة ، وهكذا كان شأن كافة الحقائق المسجلة، صغيرة كانت أم كبيرة. فكل شيء يتلاشى في عالم من الظلال إلى حد يصبح معه حتى تاريخ السنة أمرًا مشكوكًا فيه.
رفع ونستون ناظريه عبر القاعة . في الحجرة المقابلة لمكتبه على الجانب الآخر كان ثمة رجل ضئيل الجسم، دقيق الملامح، ذو ذقن سوداء، يُدعى تيلوتسون، يعمل بدأب، واضعًا على ركبتيه صحيفة مطوية، ومقرّبًا فمه من مهتاف جهاز التسجيل. وكان يبدو من هيئته أنه يحاول الاحتفاظ بما يقوله سرًا، بينه وبين شاشة الرصد . وعندما رفع رأسه لاحظ أنّ ونستون ينظر إليه، فبادله بنظرة عداء .
كان ونستون لا يعرف من هو تيلوتسون هذا ولا العمل الذي يقوم به . فالناس في دائرة السجلات كانوا لا يميلون للتحدث عما يُسنَد إليهم من مهام. ففي القاعة الطويلة الخالية من النوافذ، وحجراتها المصطفة على صفين وحفيف الأوراق الذي لا ينتهي وهمهمة الأصوات التي تهمس أمام أجهزة التسجيل، كان يعمل عشرات الموظفين الذين لم يكن ونستون حتى يعرف أسماءهم ، مع أنه كان يراهم يوميًا يروحون ويجيئون سراعًا في الممرات أو يلوحون بالإشارات في أثناء «دقيقتي الكراهية». ولكنه كان يعرف أن في الحجرة المقابلة لحجرته ، تعمل المرأة ذات الشعر الرملي ، التي تعكف يوميًا على تعقب ومحو ما يرد في الصحف من أسماء لأناس تمّت إزالتهم من الوجود، ومن ثم ينبغي اعتبارهم وكأنهم لم يكونوا أبدًا. وكان في ذلك شيء من الملاءمة لحالتها ، إذ كان زوجها قد لاقى ذلك المصير قبل سنتين. وعلى بُعد بضع حجرات كان هنالك شخص هادئ، غير فعال، ويبدو كأنه يعيش في عالم من الخيال، يدعى إمبلفورث، وذو أذنين مغطاتين بشعر كثيف ويتمتع بموهبة مدهشة ر التعامل مع القوافي والأوزان. كان إمبلفورث يعكف على إنتاج نسخ محرفة ، أو نصوص نهائية كما كانت تسمى، من القصائد التي أصبحت تتعارض مع أيديولوجية الحزب ، ولكن لسبب أو لآخر كان ينبغى استبقاؤها في موسوعة المختارات الأدبية. وهذه القاعة التي تضم خمسين عاملاً أو ما يقارب هذا العدد، كانت قسمًا فرعيًا واحدًا، أو خلية مفردة ضمن المنظومة الضخمة المعقدة لدائرة السجلات. بينما كان يوجد فوق وتحت، مجموعات كبيرة من العاملين المنهمكين في كم هائل من أعمال لا يمكن تخيلها. فهناك قاعات الطباعة الضخمة بخبراتها واستديوهاتها المجهزة بشكل جيد من أجل تزييف الصور. وهنالك قسم البرامج الإعلامية بمهندسيه ومنتجيه وفرق الممثلين الذين اختيروا خصيصًا لمهاراتهم في تقليد الأصوات ، كما كان ثمة جيوش من الكتّاب المراجعين الذين تقتصر وظيفتهم على وضع قوائم بالكتب والدوريات التي ينبغي مراجعتها. وكان هنالك مستودعات ضخمة حيث تخزن الوثائق المصححة فضلاً عن الأفران المخفية والتي يجري فيها إتلاف النسخ الأصلية. وفي مكان أو آخر، مجهول الاسم، كانت هنالك العقول المدبرة التي يناط بها التنسيق بين الجهود وإرساء الخطوط العامة للسياسة التي تقرر ما يجب الاحتفاظ به من الماضي، وما يجب تزويره أو محوه .
ولم تكن دائرة السجلات هذه إلا فرعاًا من فروع وزارة الحقيقة ولم تكن مهمتها الأساسية إعادة بناء الماضي فحسب، بل تزويد مواطني أوقيانيا بالصحف والأفلام والكتب ، وبرامج شاشة الرصد، والروايات والمسرحيات، وبكل أنواع الإعلام أو الإرشاد أو التسلية، من التمثال إلى الشعار، ومن القصيدة الغنائية إلى بحوث علم الأحياء ، من كتب التهجئة الخاص بالأطفال إلى معجم اللغة الجديدة . ولم يكن على وزراة الحقيقة أن تلبي الاحتياجات المتنوعة للحزب فحسب، بل عليها أيضًا أن تؤدي الدور نفسه، ولكن بمستوى أدنى، لمصلحة البروليتاريا. فهناك سلسلة كاملة من دوائر الوزارة المنفصلة التي تتعامل مع أدب البروليتاريا وموسيقاهم ومسرحهم ووسائل لهوهم بصورة عامة . وهناك تصدر جرائد تافهة لا تحوي شيئًا تقريبًا إلا أخبار الرياضة والجرائم والتنجيم. وتنتج الروايات الجنسية ذات الخمسة سنتات وأفلام الإثارة الجنسية والأغاني العاطفية التي يتم تأليفها بوسائط آلية مثل ذلك النوع من جهاز الكاليدسكوب المعروف بناظم الشعر. وهناك أيضًا قسم فرعي - اسمه في اللغة الجديدة بّورنوسيك - ويعمل على إنتاج أحط أنواع المواد الإباحية، وهذه كانت توزع بمغلفات مختومة لا يسمح لأي عضو من أعضاء الحزب، ما عدا أولئك الذين يعملون فيها، بالنظر إليها .
انزلقت ثلاث رسائل من الأنبوب بينما كان ونستون يعمل، لكنها كانت تتعلق بأمور بسيطة، واستطاع بالفعل الانتهاء من أمرها قبل أن يداهمه موعد «دقيقتي الكراهية». وحينما انتهت الدقيقتان عاد إلى حجرته، وتناول معجم اللغة الجديدة من فوق الرف، وأزاح جهاز التسجيل جانبًا ، ونظف نظارتيه حتى يفرغ لمهمته الرئيسية في ذلك اليوم .
كانت أمتع الساعات في حياة ونستون هي تلك التي يمضيها في العمل. صحيح أن معظم العمل كان مملاً ورتيبًا، ولكن كانت هناك مهام صعبة ومعقدة إلى حد قد ينسى المرء نفسه في غمرتها ، كما ينساها وهو منهمك في مسألة رياضية ، حيث يُطلب منك عملية تزوير دقيقة وليس ثمة ما تسترشد به غير معرفتك بمبادىء «انج سوك» وتقديراتك الثسخصية لما يريد الحزب أن يقوله . وكان ونستون يجيد مثل هذه المهام، حتى أنه كان يُعهد إليه أحيانًا بتعديل المقالاربى الرئيسية في «التايمز» المكتوية بكاملها باللغة الجديدة. فض ونستون الرسالة وقرأ ما يلي:
الزمان 3-12-83 نقل الأمر اليومي للأخ الكبير خاطئ جدًا جدًا، عدم الإشارة إلى أشخاص، اكتبه ثانية مصححًا، أرسله إلى فوق، لا تحفظه.
وفي اللغة القديمة تعني:
أمر الأخ الكبير في جريدة التايمز يوم 3 كانون الأول (ديسمبر) وفيه إشارات لأشخاص غير موجودين فعلاًً. أعد كتابته بشكل كامل وابعث بالمسودة إلى مرجع أعلى قبل وضعه هي الملف وحفظه.
تفحّص ونستون المقالة المثيرة للاعتراض، فأمرُ الأخ الكبير كما يبدو كان مخصصًا للإشادة بعمل مؤسسة إذ إذ سي سي، التي كانت تزود البحارة في القلاع العائمة بالسجائر وبعض الكماليات الأخرى . ذكر أحد الرفاق ويدعى الرفيق وذرذ وهو من الأعضاء البارزين في النخبة، مثنيًا عليه ومنحه وسامًا رفيعًا من الدرجة الثانية.
وبعد ثلاثة أشهر حُلت هذه المؤسسة فجأة. وكان بوسع المرء الظن بأن وذرذ وشركاءه قد باتوا من المغضوب عليهم ، ولكن لم تصدر أية إشارة إلى ذلك لا في الصحف ولا على شاشة الرصد. كان ذلك هو المتوقع، لأنه لم يكن من المعتاد أن يحاكَم السياسيون المنشقون أو حتى يدانون علنًا. فحملات التطهير الكبرى التي تشمل آلاف الناس وتصحبها محاكمات علنية للخونة ولمجرمي الفكر الذين أقروا بخسّة ما اقترفوا من جرائم وجرى إعدامهم فيما بعد، لم تكن سوى عيّنات خاصة للعرض ولا تحدث غالبًا أكثر من مرة واحدة كل سنتين. أما الأمر المألوف فهو أن الأشخاص الذين يجلبون على أنفسهم غضب الحزب كانوا يختفون من الوجود ويختفي معهم ذكرهم دون أن يُعثر على أي مفتاح يكشفه سر اختفائهم . وفي بعض الحالات لا يكون هؤلاء قد ماتوا بعد. وربما يعرف ونستون ثلاثين شخصًا، فضلاًعنه أبويه، ممن اختفوا في هذا الوقت أو ذاك .
حك ونستون انفه بملقط للورق في يده، بينما كان الرفيق تيلوتسون ما زال منكبًا على جهاز للتسجيل بصورة توحي بسرية ما يفعله. ولما رفع راسه ثانية باتجاه ونستون شعر بنظرة عداء تلمع في عينيه. تساءل ونستون عما إذا كان الرفيق تبلوتسون منهمكًا قي المهمة نفسها التي تم إسنادها إليه . إن ذلك من الجائز تمامًا . فمهمة على هذه الدرجة العالية من الدقة، لا يمكن أن نعهد بها إلى شخص بمفرده؛ ومن جهة ثانية إلا أوكلت هذه المهمة للجنة معناه الاعتراف العلني بوقوع التزوير. لذلك من المرجّح أن يكون هنالك عشرات من العاملين يعكفون الآن على عمل نسخ لما قاله الأخ الكبير بالفعل. وبعد ذلك يقوم بعض ذوي العقول المدبرة من أعضاء النخبة في الحزب باختيار هذه النسخة أو تلك، وإعادة تنقيحها عبر عمليات معقدة من المراجعة مع الإحالات اللازمة، ثم يتم تمرير الكذبة التي وقع الخيار عليها إلى السجلات الدائمة لتصبح حقيقة .
لم يكن ونستون يدري أي جرم ارتكبه وذرذ، ربما حدث ذلك بسبب الفساد أو عدم الكفاءة. أو ربما لأن الأخ الكبير كان يرغب في التخلص من أحد مرؤوسيه الذين يحظون بشعبية جارفة . أو قد يكون لأن وذرذ أو واحدًا من ذويه قد اشتُبِهَ في أن لديهم ميولاً انشقاقية، أو ربما ، وهو الأرجح ، أن ما حصل قد حصل فقط لأن حملات التصفيات والإبادة كانت جزءاً ضروريًا من آليارت عمل الحكومة. المفتاح الوحيد الحقيقي لهذا اللغز يكمن في عبارة «لا تشر إلى الأشخاص» هي ما تنطوي على إشارة إلى أن وذرذ قد مات فعلاًً. لكن ليس لك أن تفترض دائمًا بأن هذه هي الحال مع كل الذين يتم القبض عليهم، ففي بعض الأحيان يطلق سراج بعضهم ويمنحون حريتهم لسنة أو سنتين ثم ينفذ فيهم حكم الإعدام. وأحيانًا كثيرة قد يظهر بعض من تحسبهم في عداد الموتى منذ أمد طويل ظهورًا خاطًا عبر محاكمة علنية حيث يدلي بشهادة يورّط بها مئات آخرين قبل أن يختفي، ولكن للأبد هذه المرة . أما وذرذ فلم يكن يُعَدّ شخصًا على أي حال، وهذا يعني أنه لم يكن له أبدًا أي وجود . وهنا قرر ونستون أن مجرد قلب اتجاه خطاب الأخ الكبير لن يكون كافيًا، وأن من الأفضل أن يجعله يعالج مسألة لا علاقة لها أبدًا بموضوعه الأصلي.
كان في وسعه تحويل الخطاب إلى إدانة للخونة ولمجرمي الفكر، ولكن ذلك سيكون مكشوفًا، كما كان يمكنه أن يختلق انتصارًا تحقق على الجبهة، أو نجاحًا في تحقيق فائض إنتاج في الخطة الثلاثية التاسعة، ولكن ذلك قد يعقد السجلات تعقيدًا شديدًا. إن المطلوب هو قطعة من الخيال الخالص. وفجأة خطرت على باله فكرة جاهزة . إنها صورة الرفيق أوغيلفي الذي مات مؤخرًا في ميدان المعركة وسط أجواء ملحمية. وما أكثر المناسبات التي كان الأخ الكبير يكرس فيها خطابه اليومي لإحياء ذكرى أحد أعضاء الحزب عديمي الذكر المتواضعين ليجعل من حياتهم ومماتهم مثالاً يحتذى به . واليوم يجب الإشادة بذكرى الرقيق أوغيلفي . صحيح أنه لم يكن هنالك وجود سابق لشخص حقيقي اسمه أوغيلفي، ولكن بضعة أسطر مكتوبة وصورتين مزيفتين له لكفيلة بأن تجعل له وجودًا.
أطرق ونستون لحظة ثم جذب جهاز التسجيل باتجاهه وشرع يملي بأسلوب الأخ الكبير المألوف: وهو أسلوب عسكري ومتحذلق في آن. وبسبب لجوئه لحيلة طرح الآسئلة ثم تقديم الأجوبة الفورية عليها بنفسه ، (مثل أتدرون أي الدروس يمكن أن نستخلصها أيها الرفاق؟ إن الدرس - والذي يكوّن أحد مبادىء الاشتراكية الإنجليزية - هو)، فقد كان من السهل تقليده .
في الثالثة من عمره ترك الرفيق أوغيلفي كافة لعب الأطفال ما عدا الطبلة والرشاوش ونموذج لطوافة. وفي السادسة، أو قبل سنة من ذلك، إذا تركنا جانبًا بعض قواعد الحساب، التحق بمنظمة الجواسيس، وفي التاسعة أصبح قائد مجموعة. أما في الحادية عشرة فقد وشى بعمّه إلي شرطة الفكر بعدما استرق السمع لحديث كان يبدو أنه يتضمن ميولاً إجرامية. وفي السابعة عشرة أصبح منظم مقاطعة في رابطة مناهضة الجنس، وفي التاسعة عشرة صمم القنبلة اليدوية التي كانت تتبنى مشروعها وزارة السلام، والتي تسببت أولى تجاربها في مصرع واحد وثلاثين أسيرًا من أوراسيا عند تفجيرها . وفي الثالثة والعشرين قضى نحبه وهو يؤدي الواجب. فبينما كانت تلاحقه طائرات نفاثة معادية أثناء تحليقه بطوافته فوق المحيط الهندي حاملاً وثائق هامة أثقل جسمه بالرشاش وقفز من طوافته إلى أعماق المياه مع ما كان يحمله من وثائق. إنها نهاية بطولية نموذجيّة ، حسبما يقول الأخ الكبير، لا يمكن أن يفكر فيها المرء إلا وتثير لديه مشاعر الحسد. بعدئذ أضاف الأخ الكبير بضع ملاحظات عن الطهر والإخلاص اللذين تمتع بهما الرفيق أوغيلفي في حياته. فقد كان لا يقرب الخمر ولا يدخن السجائر ولا يلتمس الراحة من عمله إلا ساعة واحدة في اليوم يمارس فيها الرياضة، فضلاً عن أنه نذر نفسه للعزوبة معتقدًا أن الزواج ورعاية الأسرة لا يناسبان شخصًا مثله ، لقد وهب نفسه للواجب أربعًا وعشرين ساعة في اليوم. ولم يكن له حديثًا إلا الحديث حول مبادئ الاشتراكية الانجليزية، ولا هدفه له في الحياة إلا إلحاق الهزيمة بالعدو الأوراسي وتعقسب الجواسيس والمخربين ومجرمي الفكر والخونة بشكل عام.

فكر ونستون في نفسه ما إذا كان سيمنح أوغيلفي وسام الاستحقاق، ولكنه عدل في النهاية عن تلك الفكرة لأنها ستجر وراءها مراجعة سجلات هو في غنى عنها. ومرة ثانية رفع ناظريه صوب منافسه في لاحجرة المقابلة، وكان ثمة شيء في نفسه يقول له إن تيلوتسون منهمك في العمل ذاته الذي يؤديه هو. لكن لم يكن ثمة طريقة لمعرفة أيّ عمل سيتم تبنّيه في النهاية، غير أنه كانت لديه قناعة راسخة بأن عمله هو الذي سيتم اعتماده. فالرفيق أوغيلفي، الذي كان منذ ساعة لا يردّ حتى على خيال، أصبح حقيقة راسخة الآن. وفكر ونستون كيف أنه يمكنك أن تبعث الحياة في الموتى بدون أن يمكنك ذلك مع الأحياء. فالرفيق أوغيلفي، اللذي لم يسبق أن كان له وجود في الحاضر، أصبح الآن موجودًا في الماضي، وحينما ينسى الناس عملية التزوير ويطويها النسيان، فلسوف يصبح وجوده يضاهي وجود كلٍّ من شارلمان أو يوليوس قيصر في صحته و ثبوته.

هناك تعليق واحد:

  1. merit casino free spins no deposit casino 2020
    The best online casinos that 메리트카지노 offer bonus 인카지노 games are the ones kadangpintar that are known as the Best. We will explain how the Best online casinos accept this and make sure that you

    ردحذف