السبت، 27 مايو 2017

الجزء الأول - الفصل 3

الفصل الثالث



كان ونستون يحلم بأمه. حرك ذاك الحلم ذكراها في داخله، وفكر أنها لا بد قد اختفت وهو بعد في العاشرة أو الحادية عشرة من عمره. كانت امرأة طويلة ممشوقة القوام كتمثال، تميل إلى الصمت، بطيئة الحركة، ولها شعر أشقر جميل. بعدئذ تذكر والده على نحو أكثر تشوشاً، فما يذكره عن والده أنه أسمر البشرة، نحيف، ويرتدي دائماً ملابس سوداء أنيقة (وأكثر ما يذكره ونستون عن والده أنه كان ينتعل حذاءً ذا نعل رقيق) ويضع نظارة على عينيه. وقد قضى والداه نحبهما في إحدى موجات التطهير الواسعة التي جرت في الخمسينات.
في تلك اللحظة كانت أمه تجلس في مكان سحيق تحته وهي تحمل شقيقته الصغرى بين ذراعيها. وأما شقيقته فلم يكن يتذكر شيئاً عنها على الإطلاق فيما عدا أنها كانت طفلة نحيلة، ضعيفة، دائمة الصمت وذات عينين واسعتين شاخصتين. كلتاهما كانتا تتطلعان إليه. فكلتاهما كانتا في موضع ما أسفل الأرض، ربما في قاع بئر مثلاً أو في قبر عميق، ولكنه، رغم بُعد المكان عنه وعمقه، فإنه كان ما زال يهوي إلى أسفل. كانتا على سطح سفينة تغرق وتنظران إليه عبر ظلمة المياه. كان ما يزال هناك بعض الهواء الذي تتنفسانه، وما يزال باستطاعته أن يراهما وترياه وكانتا تغرقان وتغرقان إلى الأعماق السحيقة حيث المياه الخضراء التي ستواريهما عن الأنظار إلى الأبد. كان هو في الهواء الطلق وتحت أشعة الشمس، أما هما ففي الماء الذي يشدهما نحو الموت. لقد كانتا حيث هما لأجل أن يكون هو في مكانه الذي هو فيه. كان يدرك ذلك كما تدركانه، ويراه على وجهيهما. لم يكن هنالك ملامة على وجهيهما أو في قلبيهما نحوه، كأنهما تعرفان أنه كان يجب أن تموتا من أجل أن يظل هو على قيد الحياة. وكان هذا جزءاً من مسار لا مفرّ منه.
لم يكن باستطاعته أن يتذكر ما الذي حصل، لكنه عرف في حلمه بطريقة ما أن أمه وشقيقته قدمتا حياتيهما فداء لحياته هو. لقد كان حلما من تلك الأحلام التي، رغم محافظتها على المشهد المميز لأجواء الأحلام، تبقى امتداداً لحياة الإنسان الفكرية، والتي يصبح المرء فيها على وعي بالحقائق والأفكار التي تبقى محفورة في ذاكرته حتى بعد أن يستيقظ.
وما خطر لونستون هو أن موت أمه، منذ ثلاثين سنة تقريباً، كان مأساة محزنة بشكل لم يعد موجوداً. فالمأساة، كما يفهمها، باتت شيئاً يخص العالم القديم، وينتمي لزمان كان ما يزال فيه خصوصية وصداقة وحب، لزمان كان ما يزال أفراد العائلة الواحدة يقفون فيه جنباً إلى جنب دونما حاجة إلى معرفة السبب. كانت ذكرى وفاة أمه تمزّق قلبه، فقد كانت تحبّه، وماتت وهي تحبّه، فيما كان هو صغيراً وأنانياً أعجز من أن يبادلها حبّاً بحب. ولسبب لا يعرفه لم يكن يتذكر كيف ضحت بنفسها في سبيل مفهوم من الولاء كان خاصاً بها وغير قابل لأن يتحوّل أو يتزعزع. ورأى أن أشياء كهذه لا يمكن أن تحدث في هذه الأيام التي باتت زماناً للخوف والكراهية والألم، ولا مكان فيها للعواطف السامية أو للأحزان العميقة أو المعقدة المتشابكة.
كل هذا بدا له أنه يراه في عيون أمه وأخته الواسعة عندما كانتا تتطلعان إليه عبر المياه الخضراء، وعلى بعد مئات الفراسخ في الأعماق، وهما تغرقان لأسفل وتغرقان.
وفجأة رأى نفسه واقفاً على أرض يكسوها عشب ربيعي في نهاية نهار صيفي حيث أشعة الشمس المائلة للغروب تذهّب الأرض. إنه المشهد نفسه الذي يتكرر مراراً في أحلامه حتى بات يشك فيما إذا كان قد رأى ذلك في اليقظة أم في المنام. في أوقات اليقظة كان يسمي هذا المشهد: الريف الذهبي. إنه مرعى قديم كانت ترعى فيه الأرانب، ويجتازه متلوياً ممر ضيق وحفر خِلْدٍ هنا وهناك. أما على السياج في الجانب المقابل من الحقل فقد كانت أغصان شجر الدردار تتمايل على نحو خفيف مع النسيم بينما تحف أوراقها متحركة بكتلها الكثيفة مثل شعر النساء. وعلى مقربة ينساب جدول صاف ورقراق حيث تسبح الأسماك في برك تحت أشجار الدردار.
وعبر الحقل، كانت الفتاة ذات الشعر الأسود تسير نحوه. وبحركة واحدة نزعت ثيابها ورمتها جانباً دون اكتراث. كان جسدها ناعماً وبشرتها بيضاء، لكن ذلك لم يثر فيه أدنى رغبة، بل إنه بالكاد تطلع إليها. لكن الذي استهواه من ذلك كله هو تلك الحركة التي نزعت بها ثيابها وطرحت بها أرضاً. فبرشاقتها وعدم مبالاتها بدا كأنها تقوّض ثقافة كاملة وتنقض نظاماً فكرياً بكليته، كما لو أن الأخ الكبير والحزب وشرطة الفكر يمكن أن تذهب أدراج الرياح بحركة بارعة كحركة ذراعها. لقد كانت هذه الحركة أيضاً من بقايا الزمن القديم. واستيقط ونستون وكلمة شكسبير على شفتيه.
كانت شاشة الرصد ترسل صفيراً يصم الآذان استمر على وتيرة واحدة لثلاثين ثانية. وكانت الساعة تدق السابعة والربع وهو وقت استيقاظ العاملين بالمكاتب. قفز ونستون من فراشه عارياً، إذ كان العضو العادي بالحزب لا يتسلم إلا ثلاثة آلاف قسيمة ملابس سنوياً، وكانت البيجامة تكلف وحدها ستمائة، لبس على عجل بعض الملابس الداخلية المتسخة وسروالاً كان معلقاً على كرسي. كانت فترة التمارين الرياضية ستبدأ في غضون ثلاث دقائق. وفي اللحظة التالية تملكته نوبة سعال عنيفة، كانت تنتابه تقريباً بعد استيقاظه، أجهدت رئتيه بشدة حتى أنه لم يكن يستطيع التنفس إذ ذاك إلا بعد أن يستلقي على ظهره ويشهق عدة شهقات عميقة. انتفخت عروقه من أثر السعال كما بدأت الدوالي تؤلمه.
ثم تعالى صوت أنثوي قوي لامرأة تزعق: «المجموعات من ثلاثين إلى أربعين! رجاء، خذوا أماكنكم! من ثلاثين إلى أربعين!».
قفز ونستون متخذا وضعية الاستعداد أمام الشاشة. ظهرت امرأة شابة نحيفة لكنها مفتولة العضلات ترتدي بدْلة وحذاء رياضياً، ثم صرخت:
«مع ثني الذراعين ومدّهما، تابعوا معي، واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، هيا أيها الرفاق، لتكن حركاتكم أكثر حيوية. واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة! واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة ...»
لم يصرف ألم السعال ذهن ونستون عن الانشغال بما أثاره ذلك الحلم داخله. بل إن تلك الحركات المتناسقة من التمرين الرياضي قد أبقت على هذا التأثير. فبينما كان يحرك بصورة آلية ساعديه إلى الأمام وإلى الوراء، إلى فوق وإلى تحت، متظاهراً بالانشراح، وهو ما كان يعد أمراً ضرورياً أثناء التمارين الرياضية، كان يحاول جاهداً استرجاع تلك الفترة التي يلفّها من طفولته المبكرة، ولو أن ذلك كان في غاية الصعوبة، فبعد الخمسين يتلاشى كل شيء من الذاكرة. وإذا لم يكن هنالك سجلات يمكنك الرجوع إليها، فإن خط حياة الإنسان قد يُمحى أثره من الذاكرة. قد تخطر على ذاكرته أحداث كبيرة من المحتمل ألا تكون قد وقعت، أو تفاصيل أحداث دون أن تكون قادراً على استكناه الأجواء والظروف التي رافقتها. ومن الممكن أن تكون هناك فراغات زمنية كبيرة لا يمكنك أن تملأها بأي أحداث. لقد تغير كل شيء، حتى أسماء البلدان ومساحاتها على الخرائط تغيّرت. فالقطاع الهوائي رقم واحد على سبيل المثال لم يكن هذا اسمه في تلك الأيام، كان يسمى إنجلترا أو بريطانيا، أما لندن، حسبما كان يشعر، فقد كانت دوماً تسمى لندن.
لا يذكر ونستون على وجه التحديد وقتاً لم تكن فيه بلاده في حالة حرب، ولكن كان من الثابت له أنه كان هنالك فترة طويلة من السلام قد خللت طفولته، لأن من ذكريات طفولته الأولى يذكر غارة جوية فاجأت الجميع على حين غرة. ربما كان ذلك عندما ألقيت قنبلة ذرية على كولشيستر. وهو لا يذكر الغارة نفسها، لكنه يذكر يد والده وهي تقبض على يديه بينما كانا يُهرعان نازلين إلى مكان عميق تحت الأرض على سلم حلزوني يرن تحت قدميه، مما آلم ساقيه واضطره للتوقف وأخذ قسط من الراحة. فيما أمه بحركتها الهادئة الحالمة كانت في صف طويل وراءهما وهي تحمل أخته الصغيرة، أو لعل ما تحمله كان صرة من البطانيات. فهو ليس متأكداً مما إذا كانت أخته قد وُلدت أم لا. أخيراً وصلوا إلى مكان مزدحم يعج بالضجيج، وهو حسبما اعتقد، محطة قطار أنفاق.
كان هنالك أناس يجلسون على أرض مرصوفة بالحجارة، بينما آخرون يتزاحمون بشدة وهم يجلسون على مقاعد معدنية الواحد فوق الأخر. استطاع ونستون وأمه وأبوه أن يجدوا لهم موطئاً. وبالقرب منهم كان رجل وامرأة طاعنان في السن يجلسان جنبا إلى جنب على مقعد. كان الرجل العجوز يلبس بذلة سوداء وقبعة من القماش الأسود تنحسر للوراء كاشفة عن شعر ناصع البياض. كان وجهه قرمزياً وعيناه زرقاوين ومغرورقتين بالدموع، وتنبعث منه رائحة الخمر وكأنها تفوح من جسمه وليس من الشراب. حتى كان المرء ليحسب أن الدموع التي تسيل من عينيه هي خمر صاف. ولكنه رغم كونه ثملاً قليلاً، فإنه كان رازحاً تحت أحزان حقيقية لا تحتمل. وبطريقتيه الطفولية أدرك أن ثمة واقعة فظيعة، واقعة لا يمكن غفرانها أو علاجها، قد حدثت. وبدا له أيضاً أنه قد عرف السعب. شخص ما كان يحبه العجوز، ربما حفيدة صغيرة، قد قضت نحبها. وكان العجوز يتمتم من حين لآخر قائلاً: «كان يجب ألا نثق بهم، هذا ما قلته أليس كذلك، هذا ما جنيناه من ثقتنا بهم، لقد كنت أقول ذلك دائماً، ما كان ينبغي لنا أن نثق بهؤلاء الأنذال».
لكن من هم هؤلاء الذين ما كان عليهم أن يثقوا بهم؟ أمر لم يعرفه ونستون. منذ ذلك الوقت كانت الحرب متواصلة، ولو أننا أردنا الدقة، فإنها لم تكن دائماً الحرب نفسها. فعلى مدى أشهر، أثناء طفولته، كان قتال عنيف يدور في شوارع لندن نفسها. وهو ما يزال يذكر بعضه بوضوح. ولكن التاريخ لا يأتي حتى على إشارة لتلك الفترة. من كان يحارب من وفي أي وقت؟ أمر كهذا مستحيل طالما أنه لا سجل مكتوب أو كلمة مسجلة قد أتت على ذكر أي تحالفات غير تلك القائمة في الوقت الراهن. ففي هذه اللحظة مثلا في 1984 (إن كانت هذه اللحظة فعلا في 1984)، أوقيانيا في حرب مع أوراسيا، بينما تُحالف إيستاسيا. لكن ما من بيان عام أو خاص اعترف يوماً بأن القوى الثلاث قد أقامت تحالفات مختلفة عما هو قائم اليوم. ولكن ونستون عرف جيداً، أنه منذ أربع سنوات فقط كانت أوقيانيا في حرب مع إيستاسيا ومتحالفة مع أوراسيا. كان ذلك مجرد إدراك مبهم لأن ذاكرته وأفكاره لم تكن تحت سيطرته بصورة كافية. فعلى المستوى الرسمي لم يحدث أي تغيير في التحالفات. فإذا كانت أوقيانيا في حرب مع أوراسيا، إذن فان أوقيانيا كانت دائماً في حرب مع أوراسيا. ذلك أن عدو اللحظة الراهنة يمثل الشر المطلق، وهذا ما يؤكد أن وفاقاً في الماضي أو المستقبل كان في حكم المستحيل.
كان الشيء المخيف الذي خطر له للمرة الألف، وهو يدفع بكتفيه إلى الوراء متألماً (بينما يداه على خاصرته ويتحرك حركة استدارية من الوسط، وهي حركة يفترض أنها تقوي عضلات الظهر)، أجل الشيء المخيف هو أن يكون ما انتابه من مخاوف صحيحاً! لو أن الحزب يستطيع أن يضرب يده في الماضي ليقول إن هذا الحدث أو ذاك لم يحدث أبداً. لو كان ذلك لكان أشد إفزاعاً من التعذيب أو الموت.
إن الحزب يقول إن أوقيانيا لم تدخل أبداً في تحالف مع أوراسيا، بينما ونستون سميث يعرف أن أوقيانيا كانت في تحالف مع أوراسيا منذ وقت قريب، ولكن مثل هذه المعلومات أين يمكن أن نجدها. إنها فقط في ضميره الذي لا يلبث أن يُسحق، وإذا قبل الناس الأكذوبة التي ألزمهم بها الحزب، وإذا كانت كل السجلات تحكي القصة نفسها، فان الأكذوبة تدخل التاريخ وتصبح حقيقة. وأحد شعارات الحزب «من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي». لكن الماضي، الذي هو في طبيعته قابل لإعادة النظر، لم يحدث أبداً أن تغير. فما هو صحيح اليوم كان صحيحاً منذ الأزل وسيبقى كذلك إلى الأبد. إن الأمر في منتهى البساطة، فكل المطلوب هو سلسلة لا تنتهي من الانتصارات على ذاكرتك «الاستحواذ على الحقيقة» أو كما يسمونها في اللغة الجديدة «التفكير الازدواجي».
«استرح» صرخت المدربة وهي تبتسم قليلاً.
أرخى ونستون دراعيه وملأ رئتيه بالهواء ببطء، بينما كان عقله ينزلق في متاهات التفكير الازدواجي .. أن تعرف وألا تعرف، أن تعي الحقيقة كاملة، ومع ذلك لا تفتأ تقص الأكاذيب محكمة البناء، أن تؤمن برأيين في آن وأنت تعرف أنهما لا يجتمعان ومع ذلك تصدق بهما. أن تجهض المنطق بالمنطق، أن ترفض الالتزام بالأخلاق فيما أنت واحد من الداعين إليها. أن تعتقد أن الديمقراطية ضرب من المستحيل، وأن الحزب وصي عليها. أن تنسى كل ما يتعين عليك نسيانه، ثم تستحضره في الذاكرة حينما تمس الحاجة إليه، ثم تنساه مرة ثانية فوراً، وفوق كل ذلك أن تطبق الأسلوب نفسه على الحالتين. ذلك هو الدهاء الكامل، أن تفقد الوعي عن عمد ووعي، ثم تصبح ثانية غير واعٍ بعملية التنويم الذاتي التي مارستها على نفسك. بل حتى إن فهم عبارة التفكير الازدواجي تستدعي منك اللجوء للتفكير الازدواجي.
ومرة ثانية دعتهم المدربة لاتخاذ وضع الاستعداد: «الآن دعونا نرى من منا يستطيع أن يلمس أصابع قدميه» نادت بحماس، ثم أردفت قائلة «ابدأوا من فوق الوركين، رجاء أيها الرفاق. واحد، اثنان! واحد، اثنان! ...»
كان ونستون يكره هذا التمرين الذي يسبب له آلاماً حادة من كعبيه إلى إليتيه وغالباً ما كان ينتهي بنوبة سعال حادة. لم يكن له غير تأملاته ما يجعله مسروراً إلى حد ما. إن الماضي، كما تراءى له، لم يتغير فحسب، بل اجتُثّ من جذوره. إذ كيف يمكن أن تبرهن على أكثر الحقائق جلاء حينما لا يكون لديك أي سجل لها خارج ذاكرتك؟ هنا حاول ونستون أن يتذكر في أي سنة سمع للمرّة الأولى بالأخ الكبير. يُخيل إليه أن ذلك كان في الستينات، لكنه من رابع المستحيلات أن يتأكد من ذلك. ففي سجلات الحزب يصور الأخ الكبير طبعاً باعتباره زعيم الثورة وحاميها والقيّم عليها منذ أيامها الأولى. ومآثره كانت تتوغل تدريجياً في الماضي حتى وصلت إلى عالم الأربعينات والثلاثينات الخرافي، عندما كان الرأسماليون، بقبعاتهم الأسطوانية الغريبة، ما زالوا يسيرون في الشوارع بسياراتهم الفارهة أو عربات الخيول ذات الجوانب اللامعة. لم يكن أحد يعرف من هذه الأسطورة ما هو الحقيقي وما هو المختَلَق، بل إن ونستون نفسه لم يستطع تذكر التاريخ الذي جاء فيه الحزب إلى الوجود، ويعتقد أنه لم يسمع بكلمة «إنج شك» قبل عام 1960، ولكن قد يكون من الممكن أنها قد اشتقت من «الاشتراكية الإنجليزية» في اللغة القديمة، مما يعني أنها كانت أسبق.
كان الضباب يحجب كل شيء. وكان بمقدورك أحياناً أن تضع يدك على أكذوبة محددة. فعلى سبيل المثال، تزعم كتب تاريخ الحزب أن الحزب هو أول من اخترع الطائرات، فيما ونستون يذكر الطائرات منذ طفولته الأولى، ولكن لا يمكن الحصول على برهان لنقض هذا الادعاء. مرة واحدة في حياته وقعت يداه على دليل وثائقي لا يمكن دحضه، برهان على تزييف حقيقة تاريخية. وفي تلك المناسبة... هنا قاطعه صوت غاضب آت من شاشة الرصد «سميث، يا سميث رقم 6079، نعم أنت، انحنِ أكثر إلى الأسفل، إنك تستطيع أن تؤدي أداء أفضل، لكنك لا تبذل جهداً كافياً، انحنِ أكثر رجاء. هذا أحسن أيها الرفيق. الآن استريحوا جميعاً وراقبوني.»
وفجأة تصبب كل جسم ونستون عرقاً حاراً، ومع ذلك بقي وجهه خلواً من أي انفعال. فليس له أن يظهر الخوف وليس له أن يظهر الاستياء. رفة عين واحدة يمكن أن تودي بك. كان ونستون واقفا يراقب بينما رفعت المدربة ذراعيها فوق رأسها ثم انحنت (ليس للمرء أن يقول بلطف ولكن بخفة وإتقان) ثم وضعت أصابع يديها تحت أصابع قدميها.

«هكذا يا رفاق. هكذا أريدكم أن تفعلوا. راقبوني ثانية. أنا في التاسعة والثلاثين من عمري ولدي أربعة أطفال. الآن انتبهوا»، وانحنت ثانية: «لاحظوا. ركبتاي غير مثنيتين، باستطاعتكم جميعًا أن تفعلوا مثلي إذا أردتم» قالت ذلك وهي تنتصب ثانية. «إن أي شخص لم يتجاوز الخامسة والأربعين يمكنه أن يلمس أصابع قدميه. فنحن الذين لم نحظ بشرف القتال على خطوط الجبهة، علينا على الأقل أن نبقى متمتعين باللياقة. تذكروا أبناءنا على جبهة مالابار! والبحارة على القلاع العائمة! فكروا فقط في كل ما عليهم أن يتحملوه. والآن حاولوا ثانية، هذا أفضل يا رفيق، أفضل بكثير»، قالت مشجعة حين نجح ونستون بعد جهد جهيد في ملامسة أصابع قدميه دون أن يثني ركبتيه للمرة الأولى منذ سنوات عديدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق