السبت، 27 مايو 2017

الجزء الأول - الفصل 8

الفصل الثامن



كانت رائحة بُن مُحمّص تفوح في أنحاء الشارع منبعثة من مكان ما في أسفل الممر- بُن حقيقي وليس بُن النصر-، توقف ونستون رغماً عنه للحظات ربما عادت به ذاكرته خلالها إلى دنيا طفولته شبه المنسية، وبعدئذ سُمعت طقة باب يغلق لتختفي الرائحة على أثر ذلك فجأة، وكأنما كانت صوتاً وحُجِب.
كان قد جال عدة كيلومترات فوق الأرصفة حينما عادت دواليه تنقز عليه، وكانت هذه هي المرة الثانية خلال ثلاثة أسابيع التي يتخلّف فيها عن حضور الأمسيات في المركز الاجتماعي، وفي هذا تهوّر لأن عدد مرات الحضور كان موضع مراجعة دقيقة. ووفقاً لأحد مبادئ الحزب، ما كان لعضو بالحزب أن يكون لديه وقت فراغ أو أن ينفرد بنفسه إطلاقاً إلا عند نومه، بل كان من المفترض أن يشارك في أي لون من ألوان الترفيه الجماعي طالما أنه لا يعمل أو يتناول طعاما أو ينام. وكان إقدام العضو على عمل يوحي بميل للعزلة، حتى لو كان ذلك نزهة على الأقدام يقوم بها منفرداً، هو عمل فيه مخاطرة واضحة. وكان يُعبّر عن ذلك في اللغة الجديدة بكلمة (حياة خاصة) وهي تعني الفردية والتمركز حول الذات. ولكنه عندما انصرف من الوزارة في ذلك المساء أغواه نسيم نيسان العليل بمتابعة السير تحت السماء التي كانت أشد زرقة وأكثر دفئاً من أي وقت مضى في هذه السنة. وفجاة بدت له تلك الأمسيات الطويلة الصاخبة التي تقام في المركز العام وما يصحب ذلك من ألعاب مجهدة ومحاضرات مملة، وصخب الرفاق وهم يتبادلون أنخاب الشراب، بدا له كل ذلك أمراً لا يحتمل. وبدافع لا إرأدي وجد نفسه يغادر موقف الحافلات ويهيم في متاهات لندن لا يلوي على شىء وسط شوارع لا يعرفها، فتارة يسير جنوباً وأخرى شرقاً وثالثة شمالاً غير آبه أين يسير وبأي أتجاه.
وكانت الكلمات التي كتبها في مذكراته «إن كان هنالك من أمل فإنه يكمن في العامّة» لا تني تتردد في ذهنه أثناء سيره وقد رأى فيها حقيقة خافية وعبثاً. وكان آنذاك قد وصل إلى مكان ما وسط الأحياء القذرة الداكنة اللون والواقعة شمال شرق ما كان يُعرف ذات يوم بمحطة (القديس بانيراس)، كان يسير في شارع مرصوفٍ بالأحجار، على جانبيه تصطف بيوت صغيرة من طابقين محطمة الأبواب تطل مباشرة على رصيف الشارع كأنها جحور جرذان. وكنت ترى بركاً من الماء القذر هنا وهناك بين الأحجار. وفي مداخل الأبواب المعتمة، وفي الأزقة الضيقة المتفرعة، كانت أعداد هائلة من الناس تتكوم، فتيات في ميعة الصبا وقد طلين شفاههن بطريقة فجة، وشباب يلاحقون الفتيات، ونساء مترهلات يسرن متهاديات يمشين على مهل كنماذج لما ستكون عليه الفتيات الشابات بعد عشرة أعوام، ونساء عجزة يسرن على أقدام مفلطحة، وأطفال في ثياب مهلهلة وأقدام حافية يلعبون في برك الماء رغم سماعهم صيحات غضبى من أمهاتهم، وربما كان ربع عدد نوافذ الشارع محطمة ومرقعة... ولم يعر معظم الناس اهتماماً بونستون عدا قلة منهم رمقته بشيء من الاستغراب الحذر. وكانت تقف على مدخل أحد الأبواب امرأتان ضخمتان بسواعد حمراوات آجرية طُويت فوق المئزر، تتجاذبان أطراف حديث التقط ونستون مقاطع منه عندما اقترب منهما:
- نعم لقد قلت لها إن كل هذا حسن. ولكنك لو كنت في مكاني لفعلت الشيء نفسه الذي فعلته، وقلت أيضاً إن من السهل أن تنتقدي الآخرين طالما ليس عندك من المشاكل ما عندي.
وقالت الأخرى: آه! ذلك هو الأمر تماماً، إنه صحيح تماماً.
وما إن مرّ بهما ونستون حتى لاذتا بالصمت فجأة وهما تتفحصانه بنظرات عدائية صامتة. في الحقيقة لم يكن ذلك عداء بالمعنى المعروف للكلمة بل مجرد حذر وتخوف وقتي كالذي يحدث عند مرور حيوان غير مألوف أمام المرء، إذ لم تكن رؤية اللباس الأزرق أمراً مألوفاً في مثل هذا الشارع. ومن المؤكد أنه لم يكن من الحكمة في شيء أن تتواجد في مثل تلك الأماكن ما لم تكن مكلّفاً بمهمة محددة هناك. وإذا حدث وصادفتك دورية فقد يستوقفونك ويسألونك: «هل تسمح لنا برؤية هويتك أيها الرفيق؟ ماذا تفعل هنا؟ متى تركت عملك؟ أهذا هو طريقك المعتاد في العودة لمنزلك؟ وهلم جرا... » وليس ذلك بسبب قواعد تحظر العودة للمنزل من غير الطريق المعتاد، وإنما لأن مثل هذا العمل يلفت انتباه شرطة الفكر.
فجأة امتلأ الشارع عويلاً وصراخاً، وانبعثت صيحات الإنذار من كل حدب وصوب وأخذ الناس يتقاطرون إلى مداخل الأبواب كالأرانب. وهرعت امرأة صغيرة السن من مدخل باب قريب جداً من ونستون وأمسكت بطفل نحيل كان يلعب في بركة من الماء ثم لفته بمئزرها وقفزت به إلى الداخل. حصل كل ذلك في لمح البصر. وفي اللحظة نفسها اندفع رجل يرتدي حُلة سوداء من زقاق جانبي وقفز نحو ونستون وهو يشير بفزع إلى السماء ويصيح في وجهه:
«بارجة...! احذر أيها المسؤول! إنها تدوي فوق رأسك! انبطح أرضا بسرعة!»
وكان العامة لسبب ما يستعملون كلمة «بارجة» للاشارة إلى القذائف الصاروخية. وغالبا ما كانوا على صواب عندما يطلقون تحذيراً من هذا القبيل. وبالرغم من أنه يفترض أن القذيفة الصاروخية تفوق في سرعتها سرعة الصوت، فقد بدا أنهم كانوا يتمتعون بغريزة ما تنبئهم بها قبل سقوطها بثوان معدودة. انبطح ونستون أرضاً وشبك ساعديه حول رأسه، ثم سمع أزيزاً مدوياً بدا له كما لو أن الأرض قد ارتجّت بقوّة وتساقط وابل من أجسام خفيفة على ظهره، ثم تبين له عندما وقف على قدميه أنها كانت شظايا من زجاج تطاير من النوافذ القريبة تحيط به من كل جانب.
وبعدئذ تابع سيره، وكانت القنبلة قد دمرت مجموعة من البيوت بامتداد مئتي متر في الشارع وتصاعد عمود أسود من الدخان في السماء مع غيمة من الغبار الكثيف غطت الأنقاض الناجمة عن الدمار. تجمع جمهور من الناس أمامه على الرصيف حيث كانت تكوين من الجبس وفي وسطه يستطيع المرء أن يتبين خيطاً أحمر لامعاً. وعندما اقترب ونستون رأى يداً بشرية مبتورة من المعصم وقد ابيضت تماماً، عدا العقد الدامية التي فيها مما جعلها تشبه الجبس.
لكز هذا الشيء بقدمه إلى البالوعة وأخذ شارعاً جانبياً ليتحاشى الزحام، وفي غصون ثلاث أو أربع دقائق كان قد أضحى خارج المنطقة المنكوبة حيث كانت الشوارع على حياتها الحقيرة الصاخبة كأن شيئا لم يحدث، وكانت الساعة قد بلغت الثامنة مساء تقريباً وقد غصّت الحانات بروّادها من عامة الشعب. ومن أبوابها المتجهمة، دائمة الاهتزاز بين فتح وغلق، انبعثت رائحة البول ونشارة الخشب والجعة الحامضة. في زاوية ناشئة عن نتوء واجهة أحد المنازل وقف ثلاثة رجال متقاربين جداً وقد أمسك أوسطهم بجريدة مفتوحة فيما كان الآخرآن يتطاولان لقراءتها من فوق كتفيه، وحتى قبل أن يصبح على مقربة تسمح له باستقراء تعابير وجوههم رأى استغراقهم الشديد الذي شمل كل ذرة من أجسامهم، وكان واضحاً أنهم يقرأون نبأً على جانب من الخطورة. وعندما أصبح على بعد خطوات منهم تفرقوا فجأة ودخل اثنان منهم في تلاسن عنيف حتى بدا أنهم على وشك البدء في توجيه اللكمات.
- ألا يمكنك أن تصغي لما اقول أيها اللعين؟ لقد أخبرتك أنه منذ أربعة عشر شهراً لم يربح أي عدد ينتهي بالرقم 7.
- بلى... لقد حدث ذلك مرة.
- كلا لم يحدث. فمنذ سنين وأنا أحتفظ في منزلي بكل المجموعات وأدونها بانتظام على قصاصة ورق وليس فيها أي عدد ينتهي بالرقم 7.
- بلى لقد ربح رقم 7.. دعني أتذكر الرقم الملعون.. إنه أربعة صفر سبعة، وكان ذلك في شهر فبراير لا بل الأسبوع الثاني من فبراير.
- فبراير... يا لك من أحمق... الأرقام جميعها مدوّنة لديّ وأنا أقول لك إنه لا يوجد ذلك الرقم.
صاح بهما الرجل الثالث قائلاً: «كفى مهاترة...»
كانوا يتحدثون عن اليانصيب، وبعدما ابتعد عنهم مسافة ثلاثين متراً نظر خلفه فوجدهم ما زالوا يتشاحنون ووجوهم منفعلة ومتقدة. وكان سحب اليانصيب الأسبوعي على الجوائز النقدية الهائلة، هو الحدث العام الوحيد الذي يعيره العامة اهتماماً كبيرًا جداً، ومن المرجح أن هناك بضعة ملايين من العامة الذين يعتبرون اليانصيب هو السبب الرئيسي إن لم يكن الوحيد وراء تمسكهم بالحياة، إذ كان لهم بمثابة المخدر ومبعث بهجتهم وحماقتهم ومحرك تفكيرهم. وحيثما كان اليانصيب هو الموضوع، كنت تجد الناس الذين بالكاد يقرأون ولكتبون، يُظهرون قدرة على إجراء الحسابات المعقدة والاحتمالات المدهشة التي تعتمد على الذاكرة. كان هناك عدد كبير من الرجال يعتمدون في كسب قوتهم على بيع الأوراق والتنبؤات وتمائم الحظ. ولم يكن لونستون علاقة بإدارة اليانصيب، فقد أنيط بوزارة الوفرة دور الإشراف على إدارة هذه العملية، ولكنه كان يدرك (وفي الواقع كان كل شخص في الحزب يدرك ذلك) أن الجوائز كانت وهمية للغاية بحيث يجري دفع الجوائز ذات المبالغ الصغيرة فحسب، أما تلك ذات المبالغ الكبيرة فكان رابحوها أشخاصاً لا وجود لهم. وفي غياب أي اتصال حقيقي بين طرفي أوقيانيا لم يكن من الصعب تمرير مثل ذلك التلاعب.
«لكن إن كان هنالك من أمل فإنه يكمن في العامة، ويجب عليك الإيمان بذلك». عندما تصوغ ذلك في كلمات فإنه يبدو معقولاً، وعندما ترى الرجال يمرون على الرصيف فإنه يصبح قضية تؤمن بها. ما إن استدار إلى شارع متفرّع حتى انتابه شعور بأنه جاء إلى هذا المكان من قبل وأن هناك طريقاً رئيسياً غير بعيد. من مكان ما تعالت أصوات بالصياح، ثم انعطف الطريق انعطافة شديدة وانتهى بدرج يفضي إلى زقاق حيث كان الباعة يعرضون خضروات ذابلة. في تلك اللحظة تذكر ونستون المكان. لقد كان الزقاق يؤدي إلى الشارع الرئيسي، وعند المنعطف الثاني، وبما لا يبعد خمس دقائق، كان يوجد حانوت بيع الأشياء القديمة الذي سبق ان اشترى منه مفكرته. ومن قرطاسية صغيرة وقريبة كان قد اشترى ماسكة الريشة والحبر.
توقف لحظة عند أعلى الدرج، فقد كان في الجانب المواجه للزقاق حانة قذرة اكتست نوافذها بالغبار كأنما غطاها الصقيع. اندفع من الباب دائم الاهتزاز رجل حناه الكبر دون أن يفقد نشاطه. وكان ذا شارب أبيض أشعث مدبباً إلى الأمام كشارب برغوث البحر. عندما وقف ونستون يراقبه، خطر له أن ذلك الرجل الذي بلغ من العمر عتياً كان في أوسط عمره عندما اندلعت الثورة، !ما كان وأمثاله من الرجال هم آخر الحلقات التي تربطنا بعالم الرأسمالية الذي تهاوى. وفي داخل الحزب نفسه لم يكن قد بقي على قيد الحياة الكثير من الذين كانت أفكارهم قد تشكلت قبل اندلاع الثورة، كما كان الجيل الاكبر من ذلك قد أبيد معظمه إبان موجات التطهير الكبرى التي جرت في الخمسينات والستينات، أما من نجا من هؤلاء فقد أدّى بهم ما لاقوه من إرهاب إلى حالة من الاستسلام الفكري الكامل. ولو كان هناك أحياء يمكنهم نقل صورة صادقة عن الأوضاع في الربع الأول من هذا القرن فلا بد أن يكونوا من العامة. وعلى نحو مفاجئ عادت إلى ذهنه تلك القطعة التي نسخها في مذكراته من كتاب التاريخ وتملكته رغبه جنونية في أن يدلف إلى الحانة ويلقي إلى الشيخ بما يحيّره من تساؤلات: «أخبرني عن حياتك عندما كنت صغيراً. ماذا كانت عليه الحال في تلك الأيام؟ هل كانت الأمور أحسن مما هي عليه الآن أم أسوأ؟».
هبط السلم على عجل خشية أن يتطرق الخوف إلى قلبه مع مرور الوقت فيقعده عن ذلك، واجتاز الشارع الضيق، كان ذلك ضرباً من الجنون ولا ريب. في العادة لا قوانين محددة تحظر الحديث مع العامة أو ارتياد حاناتهم، لكن ذلك أمر غير عادي على الإطلاق ولا يمكن بحال أن يمر دون أن يلحظه أحد، فخطر له أن يتظاهر بأن نوبة إغماء قد ألمت به إذا ما ظهرت له إحدى الدوريات وإن كان ذلك لن ينطلي عليها على الأرجح. دفع الباب أمامه حيث فاجأته رائحة الجعة الحامضة البشعة، وما إن دخل حتى خفتت حدة الضجيج بشكل ملحوظ وأحس بأن الجميع يرمقون لباسه الأزرق، كما توقفت مباراة رمي السهم التي كانت تدور في الطرف الآخر من الحجرة للحظات. كان العجوز الذي تعقبه يقف عند البار منهمكاً في جدال مع الساقي صاحب الأنف المعقوف، الذي كان ممتلى الجسم طويل القامة ذا ساعدين قويين وفي سن الشباب، بينما تحلق حولهما فريق آخر يراقب المشهد وكؤوسهم بأيديهم.
قال الرجل العجوز وقد شد كتفيه كمن يتأهب للدخول في شجار:
«ألا أبدو في نظرك مواطناً كاملاً؟ ألا يوجد كأس من سعة (الباينت) بين كؤوسك الحقيرة؟»
أجاب النادل وقد اتكأ بأطراف أصابعه على البار: «بحق الجحيم ما هو ذاك الباينت؟»
- تبا له! يدّعي أنه ساقٍ ولا يعرف ما هو الباينت؟ هو نصف الربع، وهناك أربعة أرباع فى الغالون، فهل علي أن أعلّمك الألف باء مرة ثانية!
أجاب الساقي باختصار: «لم أسمع بذلك، لأننا لا نقدم إلا باللتر ونصف اللتر، وها هي الاكواب على الرف أمامك».
قال الرجل العجوز مصمماً: «ولكني أريد باينت، ألا يمكن أن تملأ لي باينت؟ لم تكن لدينا هذه الاكواب القذرة عندما كنت شاباً».
فأجابه الساقي وهو ينظر بطرفه إلى باقي الزبائن: «عندما كنت في شبابك كنا نحن نعيش فوق قمم الأشجار».
وانخرط الجميع في ضحك صاخب، في حين بدا أن القلق الذي تسبب به دخول ونستون إلى الحانة قد تلاشى. احمرّ خجلاً وجه العجوز الأبيض المليء بالبثور، واستدار مبتعداً وهو يتمتم. لكن ونستون أمسك ذراعه بلطف قائلا: (هل تسمح لي أن أقدم لك شرابا؟ » فرد العجوز قائلاً وقد شد كتفيه ثانية: »إنك سيد مهذب» وبدا أنه لم يلحظ لباس ونستون الأزرق وأضاف بعدائية موجهة نحو الساقي: »باينت... باينت من الجعة».
وصبّ لهما الساقي نصفي لتر من جعة داكنة اللون في كأسين كان قد غسلهما في دلو تحت البار. كانت الجعة هي الشراب الوحيد الذي يقدم في حانات العامة، إذ كان من المفروض ألا يشرب العامة الخمر، لكن الحصول عليه كان متيسراً بسهولة. وحمي وطيس لعبة رمي السهم مرة أخرى وبدأ مجموعة من الرجال يتحدثون عن أوراق اليانصيب ونسوا أمر ونستون إلى حين. كانت ثمة مائدة خشبية تحت النافذة حيث يمكن تبادل الحديث دون خوف أن يسترق السمع أحد، إذ كان ذلك فيما لو حصل من الأمور البالغة الخطورة، لكن على أية حال كان المكان خلواً من شاشات الرصد وهو ما حرص ونستون على التحقق منه فور دخوله المكان.
قال الرجل متذمراً بعد أن استقر جالساً وراء كأسه: «كان في استطاعته أن يعطيني باينت، فنصف اللتر غير كاف وغير شاف، ولتر كامل كثير جدا ويضر بغدة المثانة، ناهيك عن السعر».
فقال ونستون متردداً: »لا بد أنك شهدت تغييرات كبيرة منذ كنت شاباً».
قلّب الرجل العجولى عينيه الضعيفتين في أرجاء القاعة من لوحة لعبة السهام إلى البار ومنه إلى باب مرحاض الرجال وكأنه يبحث عن تلك التغييرات داخل القاعة.
وأخيراً أجاب: «كانت الجعة أحسن وأرخص! فعندما كنت شابا كانت الجعة غير حادة وكنا لا نسميها جعة ويباع الباينت منها بأربعة بنسات. وبالطبع كان ذلك قبل الحرب.» فسأله ونستون: «أي حرب تقصد؟» فأجاب الرجل بغموض: «كلها» ورفع كأسه وقد شد كتفيه ثانية وقال: «نخبك، في صحتك».
وفي رقبته النحيلة ظلت تفاحة آدم تتحرك نزولاً وصعوداً في حركة سريعة حتى انتهى من شرب كامل الجعة. توجه ونستون إلى البار وأحضر كاسين آخرين من سعة نصف اللتر. وبدا أن الرجل العجوز قد تناسى استهجانه لشرب لتر كامل.
قال ونستون: «نك تكبرني سناً بكثير ولا بد أنك كنت رجلاً ناضجاً قبل أن أولد أنا ويمكنك أن تتذكر كيف كانت الحياة قبل الثورة. فالذين هم في مثل سني لا يعلمون شعيئاً عن تلك الأيام وليس أمامنا من سبيل لذلك سوى الكتب، ومن يدري ربما يكون ما سُجل في الكتب غير صحيح ولذا أودّ معرفة رأيك في ذلك. إن كتب التاريخ تقول إن الحياة قبل الثورة كانت تختلف اختلافاً جذرياً عما هي عليه الآن، فقد كان وصل العسف والجور والفقر إلى حد من السوء لا يمكن تخيله، وكان غالبية العمال في لندن لا يجدون ما يسد رمقهم منذ مولدهم وحتى مماتهم بينما نصفهم الآخر لا يملك حتى حذاء ينتعله. كما كانوا يعملون اثنتي عشرة ساعة في اليوم ويتركون المدارس في سن التاسعة وينام العشرة منهم في غرفة. وفي الوقت نفسه كانت توجد فئة قليلة من الناس، لا يتجاوز عددها بضعة آلاف، تتمتع بالثراء والسلطة ويسمون بالرأسماليين. كانوا يمتلكون كل شيء ويسكنون قصوراً ذات أبهة يقوم على كل منها ثلاثون خادماً ويستقلون سيارات أو عربات تجرّها الخيول ويشربون الشمبانيا ويرتدون القبعات العالية...»
تهلّل وجه الرجل العجوز فجأة وقال: «قبعات عالية! جميل منك أن ذكرتني بذلك، لقد خطرت تلك القبعات ببالي بالأمس فقط ولست أدري لماذا. لم أر أية قبعة منذ سنين، فآخر مرة ارتديت واحدة كان في جنازة زوجة أخي وكان ذلك في... لا يمكنني أن أتذكر التاريخ لكن لا بد أن ذلك كان منذ خمسين عاماً، وبالطبع كانت القبعة مستأجرة لتلك المناسبة، لعلك تفهم ما أقصد.»
قال ونستون مخفياً امتعاضه: «إنني لا أهتم كثيراً بموضوع القبعات العالية، فما يهمني هو أن هؤلاء الرأسماليين وقلة من المحامين ورجال الدين ومن اعتاشوا عليهم كانوا سادة الأرض، وأن كل ما عليها وجد لأجلهم، وكنتم أيها العمال عبيداً لهم ومن حقهم أن يفعلوا بكم ما يشاؤون، فباستطاعتهم أن يشحنوكم على السفن إلى كندا كما تشحن المواشي، وأن يناموا مع بناتكم إذا عنّ لهم ذلك، وأن يأمروا بجلدكم بما كانوا يطلقون عليه «القطة ذات التسعة أذيال». وكان عليكم أن ترفعوا لهم القبعات إذا ما مررتم بهم كما كان كل رأسمالي يجول محاطاً بعصابة من الأذناب الذين...»
وتهلّل وجه العجوز مرة أخرى وقال: «الأذناب! لم أسمع بهذه الكلمة منذ زمن طويل. الأذناب! إنك تعيدني إلى الوراء سنين طويلة. إنني أتذكر- أيام الحمير- عندما كان من عادتي أن اذهب إلى «حدائق هايد بارك» عصر أيام الآحاد لأستمع للخطباء، فإلى هناك كان الناس على اختلاف مشاربهم يفدون من جيش الخلاص والروم الكاثوليك إلى اليهود والهنود، وكان ثمة خطيب لا تسعفني الذاكرة باسمه الآن، ولكنه كان خطيباً مفوهاً حقاً، يتحدث عن أذناب البرجوازيين وخدم الطبقة الحاكمة وتحدث عن الطفيليين، الطفيليين ذاك مسمى آخر لهم. وكان يسميهم أيضاً الفعلة مشيراً إلى حزب العمال، لعلك تفهم ما أقول.
وشعر ونستون أن العجوز كان يغني على ليلاه. فقال: «ما أريد معرفته منك هو: هل تشعر أنك تتمتع الآن بحرية أوسع مما كنت تتمتع بها في تلك الأيام؟ هل تُعامل الآن كإنسان؟ في الأيام الخوالي هل كان الأغنياء...»
أضاف الرجل العجوز متذكراً: «مجلس اللوردات»، فقال ونستون: «مجلس اللوردات إن شئت ذلك، ولكن ما أسألك عنه هو هل كان هؤلاء الناس يعاملونك بازدراء لمجرد أنهم أغنياء وأنك فقير؟ وهل صحيح أنه كان يتعين عليك مخاطبتهم بلفظة «سيدي» وخلع قبعتك كلما مررت بهم؟»
وبدا على الرجل العجوز انه قد راح في تفكير عميق، وبعدما شرب ما يقرب من ربع جعته أجاب قائلاً: «أجل، لقد كانوا يحبون منك أن تلمس قبعتك لهم ففي ذلك إبداء للاحترام، ولم أكن شخصياً أوافق على شيء من ذلك، ولكني كنت أفعله في كثير من الأحيان مضطراً».
وردّ ونستون قائلاً «وهل كان أمراً معتاداً - إنني أنقل لك ما ورد في كتب التاريخ فحسب - هل كان أمراً معتاداً لدى هؤلاء الناس وخدمهم أن يرموا بك من الرصيف إلى البالوعات؟»
قال الرجل العجوز: «حدث ذات مرة أن رمى بي أحدهم، إنني أذكر ذلك وكأنه بالأمس. لقد كان هناك سباق ليلي للقوارب، وقد اعتادوا أن يكون سباقهم فظيعاً وأشبه بالشجار، واصطدمت مصادفة بشاب في شارع شفتسبري - لقد كان سيداً ويرتدي قميصاً ومعطفاً أسود ويعتمر قبعة عالية. كان يسير على الرصيف في خط متعرج فاصطدمت به دون تعمد. فقال: ألا تنظر أمامك؟ فأجبت: أتظن أن هذا الرصيف الملعون ملكك وحدك. فقال: سأفصل رأسك الأحمق عن جسدك إذا تماديت في وقاحتك. فقلت وقد أمسك بتلابيبي ودفعني دفعة قوية كادت ترميني أمام حافلة: لقد كنت شاباً في ذلك الوقت وكنت سأسدد له ضربة مماثلة، ولكن...»
واستولى على ونستون شعور باليأس، لقد كانت ذاكرة الرجل العجوز خالية إلا من تواف التفاصيل، ولن يحصل منه على معلومات ذات قيمة. إذن فتاريخ الحزب قد يكون صحيحاً، ومع قليل من التعديل، قد يكون كل ما فيه صحيح. وأخيراً قرر القيام بمحاولة أخيرة.
فقال للشيخ: «ربما لم أوضح لك قصدي تماماً. ما أود قوله هو الآتي: إنك تعيش على هذه الأرض منذ زمن طويل، وقد عشت شطراً من حياتك قبل الثورة: ففي عام 1925 مثلاً كنت قد بلغت رشدك، فهل برأيك، من خلال ما تتذكره، كانت الحياة سنة 1925 أحسن مما هي عليه الآن أم أسوأ؟ وإذا كان لك أن تختار فهل تفضل العيش في هذه الحياة أم في تلك؟
نظر الرجل العجوز إلى لوحة لعبة السهام نظرة تأمل، وأكمل متكلمآ بهيئة فيلسوف ونبرة تسامح كما لو ان الجعة قد لينت عريكته. فقال: «إنني أعلم ما تأمل مني أن أقوله، إنك تأمل أن أقول أنني أتمنى العودة إلى سن الشباب. كل الناس يتمنون أن يعودوا إلى ريعان الشباب حيث يتمتعون بالصحة والعافية. وعندما تبلغ ما بلغت من سني فلن تكون على مايرام، فأنا الآن أعاني من ألم خبيث في قدمي، ومثانتي في اضطراب شديد حتى أنها تضطرني إلى ترك الفراش ست أو سبع مرات في الليلة الواحدة. لكن من ناحية أخرى فإن للتقدم في السن ميزات عظيمة، منها مثلاً أنه لا يكون لديك هموم تنغص عليك، كما لن تشغل النساء بالك، وفي هذا فائدة جمة، فأنا لم أعرف امرأة منذ ثلاثين سنة، إذا كنت تعتبر هذا ميزة حسنة، بل وأكثر من هذا لم أرغب في ذلك».
اتكأ ونستون على النافذة، إذ لم تكن هنالك جدوى من متابعة ذلك الحديث. وكان على وشك شراء المزيد من الجعة عندما نهض الرجل العجوز فجأة متجهاً صوب المرحاض كريه الرائحة حيث كان نصف لتر الجعة الإضافي قد فعل فعله فيه. أما ونستون فقد ظل جالساً في مكانه يحملق في كأسه الفارغة لدقيقة أو دقيقتين، ولم يشعر إلا وقدماه تحملانه خارج الحانة مرة ثانية. كان ونستون على امتداد ما يقارب من عشرين سنة يفكر في هذا السؤال السهل الممتنع محاولاً الإجابة عنه: «هل كانت الحياة قبل الثورة أفضل مما هي عليه الآن؟» لكن سؤاله ظلربلا جواب حتى الآن، طالما أن قلة من الناس الباقين على قيد الحياة من العالم القديم لم يكونوا قادرين على مقارنة عقد بآخر. كانوا يتذكرون آلاف التفاهات، كمشاجرة مع زميل عمل أو البحث عن منفاخ دراجة مفقود أو تعبير اعترى وجه شقيقة قضت منذ زمن بعيد أو دوامات الغبار في صباح يوم عاصف منذ سبعين عاماً، كل هذا بينما كانت الحقائق الرئيسية واقعة خارج مدى رؤيتهم، إذ كانوا كالنملة التي يمكنها رؤية الأشياء الصغيرة بينما تتعامى عن الكبيرة. وحينما يعتري العجز الذاكرة وتكون السجلات المكتوبة زائفة، يصبح ادّعاء الحزب بأنه قام بتحسين أوضاع الحياة الإنسانية واجب القبول لأنه لم توجد، ولا يمكن أن توجد، أي معايير لقياس صحة ذلك من خطئه.
وفي هذه اللحظة انقطع حبل تفكيره فجأة وتوقف عن السير ونظر حوله، فإذا هو في شارع ضيق فيه عدد قليل من الحوانيت الصغيرة المعتمة المنتشرة بين المنازل، وفوق رأسه مباشرة كانت تتدلى ثلاث كرات معدنية بلا لون بدت كما لو كانت مذهبة فيما مضى. وأحس أنه يعرف المكان. فقد كان يقف خارج حانوت الخردوات الذي اشترى منه دفتر مذكراته.
وسرت في أوصاله ارتعاشة خوف، ففي الأصل كان شراؤه ذلك الدفتر عملاً طائشاً، وكان قد أقسم آنذاك ألا يقرب ذلك المكان مرة أخرى. ومع ذلك ففي اللحظة التي أطلق لأفكاره العنان قادته قدماه مرة أخرى إلى ذلك المكان من تلقاء نفسها، وكان ما يرجوه من شراء المفكرة، وهو أن تكون له ردءا من تلك النوازع الانتحارية. وقد استرعى انتباهه في الوقت نفسه ان الحانوت لا يزال مفتوحاً بالرغم من أن الساعة بلغت التاسعة. دلف إلى الحانوت وهو يشعر بأنه سيكون أقل مدعاة للريبة داخل الحانوت من التسكع على الرصيف، وإذا ما سئل عن ذلك، فيمكنه أن يقول بكل وضوح إنه كان يحاول شراء شفرة حلاقة!
كان صاحب الحانوت قد قام لتوه بإشعال قنديل كانت تنبعث منه رائحة قذرة لكنها محتملة. وكان رجلاً في حوالي الستين من عمره يبدو عليه الضعف ومحدودب الظهر وذا أنف طويل جميل وعينين هادئتين شوهتهما نظارة غليظة. كان يغلب على شعره الشيب لكن حاجبيه كانا كثيفين وما يزالان أسودين. وكانت النظارة وحركاته المهذبة النشطة، فضلاً عن السترة المخملية السوداء التي يرتديها، تضفي عليه هيئة رجل فكر، كما لو كان أديباً أو موسيقياً. وكان صوته ناعماً ولهجته أقل خشونة من لهجة غالبية العامة.
ابتدره الرجل فوراً: «لقد عرفتك وأنت تقف على الرصيف. ألست السيد الذي اشترى دفتر السيدة الحسناء ذي الورق الجميل؟ أعتقد أنه لم يعد يُصنع مثله منذ خمسين عاماً». ثم حدج ونستون من فوق نظارته وقال له: «هل من خدمة خاصة أسديها لك؟ أم تراك تريد فقط أن تلقي نظرة؟»
أجاب ونستون بغموض: «كنت ماراً وأردت أن ألقي نظرة وليس في ذهني شيء معيّن أطلبه.»
قال الرجل: «لا بأس. على كل حال لا أعتقد أن عندي ما يرضيك.» قالها وهو يشير بيده الناعمة معتذراً: »لعلك ترى أن الحانوت يكاد يخلو من البضائع ولا أخفيك سراً إن قلت إن تجارة القطع الأثرية القديمة على وشك الانقراض فلم يعد هناك طلب، كما أن المخزون نفد. والأثاث والأواني الخزفية والزجاجية تتكسر تدريجياً، كما أن الأدوات المعدنية قد فقدت إذ لم تقع عيني منذ سنوات على شمعدان نحاسي»
في حقيقة الأمر كان الحانوت غاصاً بالبضائع ولكن لم يكن بينها شيء ذا قيمة تذكر، ومساحة المحل محدودة إذ عُلّق على الجدران عدد لا يحصى من إطارات الصور المغبرة، كما كانت واجهة العرض تحتوي على أطباق مملوءة بالجوز والمزاليج والأزاميل البالية والسكاكين مهترئة النصول والساعات الكالحة التي لا يبدو عليها حتى أنها تعمل، ناهيك عن أشياء أخرى متنوعة مما لا قيمة له. إلا أنه على طاولة صغيرة في إحدى الزوايا وضعت أشياء من العتائق والغرائب مثل علب سعوط ومشابك من العقيق وما شابه ذلك، وهي توحي بأنه قد يكون بينها ما هو مفيد. وبينما كان ونستون يتجه نحو هذه الطاولة لاح أمام عينيه شيء أملس مستدير يلمع لمعاناً هادئاً تحت ضوء القنديل، فالتقطه.
كان قطعة ثقيلة من الزجاج محدبة من جانب ومسطحة من الجانب الآخر تكاد تشكل نصف كرة، وكان لون الزجاج ومادته نقيا نقاء ماء المطر. وفي جوفه كان ثمة جسم غريب ذو لون أحمر قاني يشبه وردة أو عشبة بحر وقد بدا أكبر من حجمه الحقيقي بسبب السطح الزجاجي المحدب.
سعأل ونستون بافتتان: «ما هذا؟»
وأجاب الرجل: «إنها مرجان من المحيط الهندي، كانت العادة أن يحفظوها في زجاج. لعلها صنعت قبل مئة عام وربما أكثر.»
وأجاب ونستون: «يا لها من شيء بديع»
قال الرجل مباهياً:«إنها بديعة الجمال لكن في هذه الأيام» ثم سعل وأضاف: «إذا فكرت فى شرائها الآن فستكلفك أربعة دولارات وأستطيع أن أتذكر عندما كان شيء كهذا يساوي ثمانية دولارات بل ربما أكثر، فهذا أمر لا يمكن حسابه ولكنه على أية حال كان مبلغاً كبيراً من المال.»
ودفع ونستون الدولارات الأربعة في الحال ودسّ هذه التحفة في جيبه. ولم يكن جمالها هو مدعاة انجذابه إليها بقدر ما كان ذلك العبق الذي أحاط بها كونها تنتمي لعصر غير هذا العصر، وإلى ذلك لم يكن زجاجها ذو الملمس الناعم واللون الصافي كماء المطر كأي زجاج آخر رآه، وكانت ذات جاذبية مضاعفة بسبب عدم فائدتها الواضحة وإن كان بوسع المرء أن يعتقد أنها قد استعملت في يوم من الأيام كثقل يوضع على الورق. رغم ثقلها الشديد في جيبه فإنها ولحسن حظه لم تسبب بروزًا واضحاً. فقد كان أمراً غريباً بل مدعاة للريبة أن يحوز عضو الحزب أي شيء عتيق أو جميل، فهذا يجعله دائماً موضع شكوك. وتهللت أسارير الرجل العجوز بعدما تسلم الدولارات الأربعة، وهنا أدرك ونستون أنه كان سيقبل بثلاثة أو حتى بدولارين.
وقال: «توجد غرفة أخرى في الطابق العلوي ربما يهمك إلقاء نظرة عليها. ليس فيها الكثير من الأشياء، بل القليل من القطع الصغيرة فقط. وسنكون بحاجة إلى قنديل إذا صعدنا لأعلى.»
وهنا أوقد قنديلاً آخر، وبظهر منحنن وببطء أخذ يصعد السلم المائل البالي عبر ممر ضيق يؤدي إلى غرفة لا تطل على الشارع بل على فناء مرصوف بالأحجار وغابة من المداخن. ولاحظ ونستون أن أثاث الغرفة كان ما يزال مرتباً كما لو كانت مهيأة للسكن وعلى الأرض قطعة من سجادة فيما عُلّق على الجدران صورة أو صورتان. وبالقرب من المدفأة كان ثمة مقعد ذو ذراعين، ومن فوق رف المكتبة انبعث صوت ساعة زجاجية عتيقة الطراز مرقّمة باثني عشر رقما. وتحت النافذة كان ثمة سرير كبير يشغل ربع مساحة الغرفة تقريبا بينما الحاشية ما زالت موضوعة فوقه.
قال الرجل العجوز بما يشبه الاعتذار: «كنا نعيش هنا حتى ماتت زوجتي. إني أبيع الأثاث قطعة بعد قطعة، والآن انظر، هذا سرير جميل من خشب الزان أو على الأقل سيكون كذلك إذا استطعت أن تتخلص مما يعيث فيه من حشرات البق، وإن كنت أستطيع القول إنك ستجد في ذلك شيئاً من المشقة».
كان يمسك بالقنديل عالياً لكي يضيء الغرفة كلها. وفي مثل هذا الضوء الضعيف بدت الغرفة مغرية على نحو غريب، ولمعت في ذهن ونستون فكرة استئجار الغرفة نظير بضعة دولارات أسبوعياً، لكن مَن سيتجرّأ على مثل هذه المخاطرة. كانت فكرة طائشة ومستحيلة ويجب التخلي عنها بمجرد التفكير فيها، إلا أن الغرفة أيقظت فيه نوعاً من الحنين إلى الماضي، وفكر في روعة الجلوس في غرفة كهذه، على كرسي ذي ذراعين وإلى جوار مدفأة يمدّ قدميه على حاجزها والقهوة على الموقد، شاعراً بعزلة تامة وأمان تام، دون أن تراقبه عين أو يطارده صوت، ولا يشق حجاب هذا السكون إلا صوت غليان الماء ودقات الساعة الشجية.
لم يستطع ونستون منع نفسه من أن يتمتم قائلاً: «لا يوجد هنا شاشة رصد!»
قال الرجل العجوز: «آه... لم يسبق أن كان لدي واحدة إنها غالية جداً ولم أشعر أبداً أنني بحاجة إلى واحدة. وهناك طاولة جميلة ذات جوانح في تلك الزاوية لكنك ستحتاج إلى تركيب مفصلات جديدة لها إذا أردت استخدامها.»
وفي الزاوية الأخرى من الحجرة خزانة كتب وجد ونستون نفسه منجذباً نحوها، ولكن لم يكن فيها سوى مهملات إذ كانت عملية ملاحقة الكتب وإتلافها قد طالت، وبنفس الشدة، الأحياء الشعبية مثلما طالت غيرها من أماكن. كان من المستبعد تماماً أن يعثر في كل أرجاء أوقيانيا على نسخة من كتاب طبع قبل سنة 1960.
وكان الرجل العجوز لا يزال ممسكاً بالقنديل ويقف أمام صورة موضوعة في إطار من خشب الورد ومعلقة على الجانب الآخر من المدفأة مقابل السرير.
وقال العجوز برقّة: «والآن، إذا كنت من معحبي اللوحات القديمة...»
مشى ونستون عبر الغرفة ليتفحص الصورة التي كانت عبارة عن رسم محفور في الفولاذ لبناء بيضاوي ذي نوافذ مستطيلة وبرج صغير في المقدمة، وحول البناء سياج من القضبان الحديدية وفي الطرف شيء كالتمثال، حدق ونستون فيه بضع لحظات فبدا وكأنه يعرفه على الرغم من أنه لم يستطع تذكره.
قال الرجل العجوز: «إن الإطار مثبت فى الحائط ولكن يمكنني نزع المسامير من الحائط إذا كنت تريده.»
بعد صمت، قال ونستون: «إنني أعرف ذلك البناء، إنه الآن عبارة عن أنقاض وسط شارع بالقرب من قصر العدل.»
أضاف الرجل: «هذا صحيح، إنه بالقرب من دار القضاء. وقد تعرض للقصف منذ سنوات كثيرة، لقد كان عبارة عن كنيسة في يوم من الأيام وكانت تسمى كنيسة القديس كليمنت دان.» ثم ابتسم ابتسامة اعتذار وكأنه أدرك أنه قال شيئاً سخيفاً وأضاف: «برتقال وليمون، تقول أجراس كنيسة القديس كليمنت!»
فقال ونستون: "ماذا؟ "
«أوه... «برتقال وليمون تقول كنيسة القديس كليمنت» إنها أغنية كنا نرددها ونحن صغار ولا أتذكر بقيتها، ولكني أعرف أنها كانت تنتهي بمقطع (ها هنا تجد شمعة تستنير بها حتى الفراش، وها هنا منجل لحز رقبتك.) لقد كان ذلك نوعاً من الرقص، يرفعون أذرعهم لتمر من تحتها وعندما يصلون إلى مقطع (وهنا منجل لحز رقبتك) يخفضون أذرعهم ليمسكوا بك. لقد كانت مجرد أسماء للكنائس وتتضمن أسماء كنائس لندن الرئيسية».
تساءل ونستون إلى أي قرن يعود بناء الكنائس يا ترى؟ إذ كان يصعب أن تقدر عمر أي بناية قي لندن، فكل بناية كبيرة ولافتة للنظر كانوا يدّعون تلقائياً أنها شيدت في عهد الثورة، وأي بناية أخرى يبدو بوضوح انتماؤها إلى عهد قبل ذلك كاشط تُنسب إلى فترة غامضة تسمى القرون الوسطى، وأما قرون الرأسمالية فكان ينظر إليها على أنها لم تنتج شيئاً ذا قيمة، لذلك ما كان باستطاعة المرء أن يعرف شيئاً عن تاريخ من الطرز المعمارية أكثر مما يعرفه من خلال الكتب. فكل ما يلقي ضوءاً على الماضي مثل التماثيل والنقوش والنصب التذكارية وأسماء الشوارع كان يتم تغييره وتحويره بصورة منهجية.
قال ونستون: «لم أكن أعرف أبداً أنها كانت كنيسة».
ورد الرجل العجوز قائلاً: «في الواقع لا يزال يوجد الكثير منها ولكنها تستعمل لأغراض أخرى...» ثم استدرك: «ها لقد تذكرت بقية الأغنية:
(برتقال وليمون تقول أجراس كنيسة القديس كليمنت، وتقول أجراس كنيسة القديس مارتن أنت مدين لي بثلاثة فارذن)
هذا هو كل ما يمكنني تذكره الآن. والفارذن كان عملة نحاسية صغيرة تشبه السنت.»
وسأل ونستون: «لكن أين كانت كنيسة القديس مارتن؟»
«كنيسة القديس مارتن؟ إنها لا تزال قائمة وتقع في ساحة النصر أمام معرض الصور. إنها عبارة عن بناء بواجهته قبة مثلثة وأعمدة وسلّم.»
كان ونستون يعرف ذلك المكان جيداً. فقد كان متحفاً لعرض معروضات دعائية من كل الأنواع كنماذج للقذائف الصاروخية والقلاع العائمة واللوحات الشمعية، تُصوِّر الفظائع التي ارتكبها الأعداء وما شابه ذلك.
وأضاف الرجل العجوز: «كانوا يسمونها القديس مارتن في قلب الحقول ولو أني لا أرى أية حقول في هذه الأنحاء».
لم يشتر ونستون الصورة، فقد كانت حيازتها أكثر مدعاة للشبهة من حيازة قطعة الزجاج كما أنه يستحيل حملها إلى المنزل إلا إذا انتزعت من إطارها. لكنه تلكأ بضع دقائق أخرى متحدثاً إلى الرجل العجوز الذي تبين له أن اسمه ليس «ويكس»، كما قد يتبادر إلى الذهن من الكتابة التي على واجهة الحانوت، وإنما شارنتون، وكان أرمل، يبلغ من العمر 63 سنة ويسكن هذا الحانوت منذ ثلاثين عاماً، وطوال هذه المدة كان يعتزم تغيير الاسم الموجود على الواجهة لكنه لم يفعل. وقد ظل صدى ذلك المقطع من الأغنية يتردد في رأسه طوال حديثهما معاً. (برتقال وليمون تقول أجراس كنيسة القديس كليمنت، وتقول أجراس كنيسة القديس مارتن أنك مدين لي بثلاثة فارذن) لقد كان مقطعا غريباً لكن ما إن تردده في نفسك حتى يخيل إليك أنك تسمع دقات أجراس حقيقية، أجراس لندن المفقودة والتي ما زالت موجودة في مكان ما أو اتخذت شكلاً آخر ثم أصبحت في طي النسيان. وبدا له أن أصواتها المنبعثة من برج تلو آخر تجلجل في أذنيه. وبقدر ما يستطيع العودة بذاكرته للوراء فإنه لا يذكر أنه سمع دقات أجراس كنيسة حقيقية.
ترك ونستون السيد شارنتون وهبط الدرج بمفرده لئلا يراه العجوز وهو يستطلع الشارع قبل أن يخرج من الباب. وكان قد عقد العزم على القيام بزيارة أخرى للحانوت بعد فترة مناسبة، شهر مثلاً، فربما كان ذلك أقل خطراً من تهرّبه من إحدى أمسيات المركز الاجتماعي. ولكن الحماقة الحقيقية التي ارتكبها كانت عودته مرة أخرى الى مكان اشترى منه دفتر مذكراته دون أن يتحقق مما إذا كان صاحب الحانوت جديراً بالثقة أم لا ومع ذلك...!
أجل رغم ذلك، فكر ثانية أنه سيعود لشراء قطع أخرى جميلة من هذه المهملات، وليشتري لوحة كنيسة القديس كليمنت المحفورة، بعد أن ينتزعها من إطارها، ويحملها إلى المنزل تحت سترة معطفه الأزرق وليستخلص بقية القصيدة من تلافيف ذاكرة الرجل العجوز. ولمع فى ذهنه للحظات مرة ثانية ذلك المشروع الطائش، مشروع استئجار الغرفة الكائنة بالطابق العلوي. وتحت تأثير غمرة الفرح التي اعترته لمدة خمس ثوان نسعي حذره وخرج إلى الشارع دون أن يلقي ولو بنظرة عبر النافذة. وكان قد بدا يتمتم بنغمة مرتجلة: تقول أجراس كنيسة القديس كليمنت برتقال وليمون، وأنت مدين لي بثلاثة فارذن.
فجاة شعر أن دمه تجمّد في عروقه واضطربت أمعاؤه عندما رأى القادم نحوه وما عاد يفصله عنه سوى عشرة أمتار. لقد كانت الفتاة ذات الشعر الأسود التي تعمل في دائرة الإثارة. لم يكن من الصعب عليه أن يتعرف عليها رغم ضعف الإضاءة في الشارع. نظرت إلى وجهه محدقة به ثم أكملت مسرعة كأنها لم تره.
لبضع ثوان شعر ونستون أنه قد فقد القدرة على الحركة، فاستدار يميناً وابتعد متثاقلاً دون أن ينتبه إلى أنه يسير في الاتجاه الخطأ. على أي حال فقد اهتدى إلى حقيقة أمرها، فقد تبدد كل شك لديه في انها كانت تتجسس عليه، إذ ليس من المعقول أن يكون تجوالها في المساء ذاته وفي الشارع الخلفي المعتم ذاته الذي يبعد كيلومترات عن أي حي يقطن فيه اعضاء الحزب، محض مصادفة، لقد كان ذلك أكثر من مجرّد مصادفة. ولم يعد يهم إذا كانت جاسوسة لشرطة الرصد أو مجرد جاسوسة هاوية مدفوعة بفضولها الخاص. المهّم أنها كانت تراقبه وربما رأته وهو يدلف إلى الحانة أيضاً.
كان يسير مجهداً، ومع كل خطوة يخطوها كانت قطعة الزجاج في جيبه ترتطم بشدة في فخذه حتى أنه كاد يخرجها ولطوّح بها بعيداً. وكان الأسوأ هو الألم الذي أصاب معدته ولدقيقتين تمثل الموت أمام عينيه إن لم يصل إلى مرحاض في الحال، كيف سيجده في مثل هذا الحي؟ غير أن الأزمة مرّت مخلفة ألماً شديداً وراءها.
توقف ونستون عن السير، فقد كان الشارع عبارة عن زقاق مسدود. تساءل لبضع ثوان عما يجب عليه أن يفعل، فاستدار إلى الخلف وهم بالعودة وقد خطر بباله أن الفتاة اجتازته منذ ثلاث دقائق فقط وأنه ربما يمكنه، إذا ما أسرع الخطى، اللحاق بها ثم اقتفاء أثرها حتى يصلا إلى مكان منعزل هادى فيحطم رأسها بحجر أو ربما تفي قطعة الزجاج التي في جيبه بهذا الغرض. لكنه تخلى عن الفكرة بعيد لحظات، فقد كان خائر القوى وليس بمقدوره أن يوجه ضربة لأحد، وفوق ذلك كانت الفتاة قوية وفي سن الشباب، وقد تدافع عن نفسها. ثم خطر له أيضا أن يهرع إلى المركز الاجتماعي ويبقى فيه حتى يغلق أبوابه كدليل يثبت مكان تواجده في هذا المساء. لكن ذلك كان أيضاً مستحيلاً. لقد انتابته حالة من الإعياء الشديد وكان كل ما يريده هو أن يعود إلى المنزل بسرعة ويستلقي بهدوء.
كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساء حينما عاد إلى شقته وكانت الأنوار تطفأ في الحادية عشرة والنصف في المدخل الرئيسي. دلف إلى المطبخ حيث ازدَرَدَ ملء فنجان شاي من خمرة النصر ثم توجه إلى الطاولة في الزاوية وأخرج دفتر مذكراته من الدرج، لكنه لم يفتحه في الحال إذ كان ينبعث من شاشة الرصد صوت أنثوي نحاسي يزعق بأغنية وطنية، فراح يحدق في غلاف الدفتر ذي اللون المرمري محاولاً دون جدوى أن يخرج ذلك الصوت من رأسه.
«لقد كانوا دائماً يأتونك ليلاً، والأفضل لك أن تقتل نفسك قبل أن يقبضوا عليك ومن المؤكد أن كثيراً سبقوك لذلك، فأكثر حالات الاختفاء كانت عمليات انتحار حقيقية. لكن الأمر يستلزم شجاعة اليأس حتى تقتل نفسك في عالم يتعذر فيه الحصول على سلاح ناري أو على سم سريع المفعول وأكيد الأثر.»
وفكر بشيء من الدهشة في عدم جدوى الألم والخوف وفي ما يلاقيه الإنسان من خذلان من جسمه الذي تخور قواه في اللحظات الحاسمة، فقد كان بامكانه أن يُخرس الفتاة ذات الشعر الأسود لو أنه قد تصرف بالسرعة الكافية، ولكن الخطر الداهم الذي كان محدقاً به سلبه القدرة على التصرف. وأدرك أن مواجهة الإنسان ضد جسده أصعب من مواجهة العدو الخارجي. وحتى في هذه اللحظات ورغم ما شربه من خمر، فإن الألم الذي في جوفه أفقده القدرة على التفكير المنطقي. وأدرك أيضاً أن هذا هو ما يعتري الإنسان في كل المواقف البطولية والمأساوية. ففي ميدان القتال أو في غرفة التعذيب أو على متن سفينة تغرق، تغدو القضايا التي تحارب من أجلها طي النسيان دائماً، ذلك لأن جسدك يظل يتضخم حتى يملأ عليك العالم فلا ترى سواه. وحتى إذا لم يشل الرعب حركتك أو لم يجعلك الألم تصرخ، فإن الحياة تظل صراعًا موصولاً ضد الجوع والبرد والقلق أو ضد حموضة وحرقة المعدة أو ألم الأسنان.
شعر ونستون بضرورة أن يكتب شيئاً ففتح المفكرة، لكن ذاك الصوت الأنثوي كان قد بدأ أغنية جديدة وكان كأنه يرتطم بمخه كشظايا من الزجاج. ثم حاول أن يفكر في أوبراين الذي من أجله، أو إليه، كانت المذكرات، لكنه وبدلاً من التفكير في أوبراين راح يفكر في ما سيحدث له بعدما تقبض عليه شرطة الفكر. لن يهم إذا ما قتلوك في الحال فذلك ما كنت تنتظره. ولكن المهم هو ما يسبق الموت (لا أحد يتحدث في مثل هذه الأمور رغم أن الجميع يعرفها)، هناك خطوات الاعتراف التي عليك أن تمر بها، من الزحف على الأرض والصراخ طلباً للرحمة وطقطقة العظام المتكسرة والأسنان المهشمة وخصلات الشعر التي تُنتزع من رأسك حتى تدميه. لماذا يتعين عليك أن تتجشم كل هذا ما دامت النهاية واحدة؟ ولماذا ليس بالإمكان أن تقتطع من حياتك بضعة أيام أو أسابيع؟ فلم يحدث أن أفلت أحد من الملاحقة أو صَمَدَ على الاعتراف. وحالما تقر بجريمة فكر فإنه من المؤكد أن موتك يصبح مسألة وقت معلوم. لماذا إذن ذلك الرعب من المستقبل الذي لم يكن ليغيرشيئاً؟
ونجح قليلاً في استحضار صورة أوبراين. فقد قال له أوبراين في الحلم «سنلتقي في مكان لا ظلمة فيه ». كان يعرف ما عناه أوبراين أو خيل إليه ذلك. فالمكان الذي لا ظلمة فيه هو المستقبل المتخيَل الذي لن يراه وإن كان يمكن استشرافه والمشاركة فيه. إلا أنه لم يستطع متابعة تسلسل أفكاره أبعد من ذلك بسبب الصوت الصادر عن شاشة الرصد والذي كان يصفر في أذنيه. وما إن وضع ونستون سيجارة بين شفتيه حتى تناثر نصف ما فيها من تبغ كالغبار اللادع على لسانه، وكان من الصعب أن يخرجه من فمه مرة أخرى. وسرعان ما غمر مخيلته وجه الأخ الكبير طارداً صورة أوبراين. وكما فعل منذ أيام خلت، أخرج قطعة عملة معدنية من جيبه ونظر إليها فحدجه الوجه بنظرة فيها هدوء ورزانة من يذود عن الحمى: ولكن أي ابتسامة تلك التي كان يخفيها تحت شاربه الأسود؟ وكدقات أجراس نعي الموتى ترددت أصداء الكلمات في ذهنه:
الحرب هي السلام
الحرية هي العبودية

الجهل هو القوة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق