السبت، 27 مايو 2017

الجزء الثاني - الفصل 8


الفصل الثامن




وأخيراً وقع المحظور.
فقد وجد ونستون وجوليا نفسيهما يقفان في غرفة مستطيلة مضاءة بأنوار خفيفة، وكانت شاشة الرصد تبث بصوت خافت أشبه بالتمتمة، وكانت نعومة السجادة ذات الزرقة الداكنة، تُثير المرء عندما يدوس عليها بأنه إنما يطأ مخملاً. وفي أقصى الغرفة كان أوبراين يجلس إلى مكتب منكبّاً على القراءة وفوق رأسه مصباح يلقي عليه ظلال خضراء، وقد رصّت على جانبي المكتب مجموعة من الأوراق. وعندما أدخلهما الخادم إلى الغرفة ظل أوبراين على حاله ولم يكلف نفسه عناء النظر إليهما.
شعر ونستون بقلبه يخفق خفقاناً شديداً حتى أن شكاً ساوره حول قدرته على الكلام، وانصبّ تفكيره على حقيقة كونه وجوليا قد فعلاها أخيراً ووقعا في المحظور. لقد كان نَزَقاً وتهوُّراً من كليهما أن يأتيا إلى هذا المكان، إنها حماقة مستحكمة أن يجيئا معاً، رغم أنهما سلكا طريقين متباينين ولم يلتقيا إلا عند باب منزل أوبراين. ولكن يبقى أن مجرد ولوجهما مثل هذا المكان يحتاج إلى أعصاب فولاذية. فقد كان من النادر أن يتاح للمرء الدخول إلى منازل أعضاء الحزب الداخلي أو التجوّل في أحياء سكناهم. وكانت اجواء أماكن سكنهم بضخامتها إضافة إلى الرحابة والفخامة اللتين تطغيان على كل شيء والروائح غير المألوفة لما لذ وطاب من طعام، والتبغ الجيد والمصاعد السريعة التي تتحرك صعودا ونزولاً في هدوء تام، والخدم ببزاتهم البيضاء يروحون ويجيئون مسرعين...، باختصار كان كل شيء مما يزيد من رهبة المكان ويلقي بالروع في النفس. وبالرغم من أن ونستون كانت لديه حجة قويّة تبرر مجيئه إلى هنا، فقد كان شعور بالرعب ينتابه مع كل خطوة يخطوها مخافة أن يبرز له بغتة، من وراء حجاب، حارس ذو ثياب سوداء يطلب منه أوراقه قبل أن يأمره بمغادرة المكان، لكن خادم أوبراين لم يعترض سبيلهما وسمح لهما بالدخول. كان رجلاً ضئيل الجسم، أسود الشعر يرتدي سترة بيضاء وله وجه جامد الملامح يشبه الألماس يبدو منه كأنه صيني الأصل. تقدمهما في ردهة كانت أرضيتها مغطاة بسجاد وثير وجدرانها موشاة بورق حليبي اللون وكل ما فيها رائع النظافة. وكان في ذلك أيضًا ما يزيد الروع في النفس، إذ كانت هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها ونستون ردهة لا تعلو جدرانها آثار القذارة والسخام الناتج عن احتكاك الأجسام البشرية التي تعبر الردهات.
كان أوبراين يمسك بقصاصة من الورق بين أصابعه يقرأها بإمعان، وقد بدا أن وجهه الضخم الذي انكبّ به على الورقة، حتى ليستطيع المرء أن يرى منه خط الأنف، يشع ذكاء ورهبة. مضى زهاء عشرين ثانية جلس فيها دون أن يحرك ساكنا، ثم جذب جهاز آلة التسجيل نحوه وأملى رسالة بلغة مختزلة تستخدم في الوزارات:
«تم التصديق على البنود الأول والخامس والسابع. أما الاقتراح الوارد في البند السادس فغاية في السخرية ويوشك أن يكون جريمة فكر. يجب رفع عدد المكائن... انتهت الرسالة».
ثم نهض عن كرسيه بتثاقل وتقدم نحو الضيفين عبر السجادة التي لا يُسمع صوت وقع الأقدام عليها، وبدا أن بعضا من هيئته الرسمية المهيبة قد زالت عنه بعدما انتهى من إملاء رسالته باللغة الجديدة، إلا أن ملامح وجهه كانت متجهمة أكثر من العادة كما لو أن زيارتهما لم تسره. وكان الرعب الذي شعر به ونستون بالفعل قد خالطه ارتباك وحيرة، إذ بدا له أن من الجائز تماماً أنه قد ارتكب خطأ ينم عن حماقة خطيرة، فأي دليل ملموس لديه على أن أوبراين متآمر سياسي؟ ليس لديه سوى وميض العينين وملاحظة وحيدة وغامضة، أما عدا ذلك فأوهام مبنية على حلم تراءى له، كما أنه لا يستطيع اللجوء إلى الادعاء بانه جاء لاستعارة المعجم لأنه في هذه الحالة سيتعذر عليه تفسير سبب مرافقة جوليا له. وعندما مر أوبراين بشاشة الرصد تصرّف وكأنما خطرت له فكرة، فتوقف ثم استدار وضغط زراً في الحائط، وفي الحال سُمِعَت طقة حادة وتوقف الصوت الصادر عن الشاشة.
وهنا صدر عن جوليا صوت خافت إذ كبتت شهقة ذهول، ولم يكن ونستون أقل هلعاً ودهشة، وقد عجز، من شدة دهشته، أن يمسك لسانه عن الكلام.
فسأل: «هل تستطيع إقفال الجهاز؟»
فقال أوبراين: «نعم يمكنني ذلك، فنحن نتمتع بهذا الامتياز».
كان أوبراين يقف قبالتهما الآن، وبدا كأن قوامه المتين قد جثم على كل منهما، وكان التعبير الذي ارتسم على وجهه مستعصياً على التفسير. لقد كان ينتظر بتجهّم أن يبدأ ونستون الكلام، ولكن عن ماذا؟ فحتى هذه اللحظة كان يبدو كأنه رجل أعمال منهمك في شواغله ويضيق بمن يقاطعه. وبعدما أوقفت شاشة الرصد وخيم جوّ من الصمت الرهيب على الغرفة، وتتالت الثواني ثقيلة، وبصعوبة بالغة ظل ونستون مثبتاً عينيه على وجه أوبراين. بعدئذ، وعلى نحو مفاجئ، افترّ وجه أوبراين المتجهّم عما يمكن أن يكون شروعاً في ابتسامة، وبحركته المعهودة قام أوبراين بإعادة تثبيت نظارته.
وقال: «هل أبدأ بالكلام أم تبدأ أنت؟»
فسارع ونستون بقوله: «بل سأبدأ أنا .. لكن قل لي هل أوقفت هذا الجهاز حقاً؟»
قال: «نعم، لقد تم إيقاف كل شيء وها نحن الآن قد أصبحنا وحدنا».
قال ونستون: «لقد جئنا إلى هنا لأننا .. ».
ثم توقف عن الكلام بعدما أدرك وللمرة الأولى غموض دوافعه. ولأنه لم يكن يعلم حقاً نوع المساعدة التي يتوقعها من أوبراين، فقد كان من العسير عليه أن يفسر سبب قدومه إلى منزله، لكنه مع ذلك راح يكمل ما انقطع من كلامه وهو مدرك أن ما سيقوله كان يبدو زعماً واهيا:
«إننا نعتقد بأن مؤامرة ما تحاك خيوطها، وبأن ثمة نوعاً من التنظيمات السرية تعمل ضد الحزب، وبأنك شريك فيها. ونحن نريد الانضمام إليها لأننا نضمر العداء للحزب ولا نؤمن بمبادئ الاشتراكية الانجليزية، إننا مجرمو فكر وفاسقون. إنني لم أبح لك بهذا إلا لأننا نريد ان نضع أنفسنا رهن تصرفك، فإذا أردت منا أن نجرِّم أنفسنا بأي شكل من الأشكال فنحن على أتم الاستعداد لذلك».
وتوقف ونستون عن الكلام ونظر من فوق كتف أوبراين حينما أحس بأن الباب قد فتح، فإذا بخادم ضئيل الجسم أصفر الوجه يدلف إلى الغرفة دون أن يطرق الباب حاملاً صينية عليها قنينة وبعض الكؤوس.
فقال أوبراين وهو جامد الملامح: «إن مارتن واحد منا».
ثم راح يوجه كلامه للخادم: «هات الشراب إلى هنا يا مارتن، وضعه على المائدة المستديرة. هل لدينا ما يكفي من المقاعد؟ إذن يمكننا أن نجلس معاً ونتحدث في هدوء، ولتجلب لنفسك مقعدا يا مارتن فنحن مقبلين على عمل الآن، ويمكنك ألا تعتبر نفسك خادماً خلال الدقائق العشر القادمة».
فجلس الخادم مسترخياً وإن ظلت مسحة الخادم ملازمة له، إنها مسحة خادم حظي بامتياز ما. نظر إليه ونستون بطرف عينه وهاله أن حياة الرجل برمتها ما هي إلا دور يؤديه وأنه يشعر بخطورة تخفيه عن الشخصية التي يتقمّصها ولو للحظة. أما أوبراين فأمسك بالقنينة وراح يصب في الكؤوس شراباً حمرته داكنة، حتى أُترِعَت. وقد حرك ذلك في ونستون ذكريات غامضة عن شيء رآه منذ زمن بعيد مرسوم فوق جدار أو على لوحة إعلانات - قنينة ضخمة تتكون من أضواء كهربائية بدا أنها تتحرك لأعلى ولأسفل وتصب محتوياتها في كأس - وكان السائل يبدو أسود اللون إذا نظر إليه المرء من أعلى، ولكنه في القنينة يتلألأ مثل الياقوت وتنبعث منه رائحة حمضية حلوة، فيما رأى جوليا وقد رفعت كأسها وراحت تشمّه باستغراب واضح.
فقال أوبراين وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة خافتة عندما رأى ذلك: «يسمّونه نبيذاً، لابد أنكما قرأتما عنه في الكتب. ويؤسفني أن أعضاء الحزب الخارجي لا يحظون بالكثير منه». ثم انطبعت على وجهه ملامح الجد والمهابة مرة أخرى ورفع كأسه وقال:
«أعتقد أنه من الأنسب أن نبدأ بشرب نخب زعيمنا إيمانويل غولدشتاين».
رفع ونستون كأسه متلهفاً فقد كان النبيذ شيئاً قرأ عنه وحلم به، وكان يرى أن مثله مثل الثقل الزجاجي وقصائد السيد شارنغتون شبه المنسية تنتمي إلى «الأيام الغابرة»، كما كان يروق له تسميتها في خواطره السرية. ولسبب ما كان يحسب دائماً أن للنبيذ طعماً شديد الحلاوة مثل مربى العليق وأن له تأثيراً مسكراً على الفور. لكنه في واقع الأمر حينما رفع الكأس وتجرع ما فيها أحس بخيبة أمل واضحة، فالسنوات التي ظل فيها يعاقر الجن أفسدت حاسة التذوق لديه وجعلته لا يكاد يستسيغ شراباً آخر، فوضع الكأس مكانها فارغة ثم قال:
- إذن فهنالك شخص حقيقي اسمه غولدشتاين؟
- نعم، هنالك شخص حقيقي، وهو حي يرزق. أما عن مكانه، فلا أعلم أين هو.
فسأل ونستون: «وماذا عن المؤامرة المنظمة؟ أهي حقيقة؟ أم تراها مجرد اختلاق من شرطة الفكر؟»
فأجاب أوبراين: «كلا، إنها موجودة فعلاً ونحن نطلق عليها حركة «الأخوة». لكن لن يتسنى لك أبداً أن تعرف عنها أكثر من كونها موجودة وأنك تنتمي إليها، ولسوف أتطرق للكلام عن ذلك لاحقاً». وتطلع إلى ساعته، وأردف قائلاً: «ليس من الحكمة حتى لأعضاء الحزب الداخلي أن يوقفوا شاشة الرصد لأكثر من نصف ساعة، وما كان ينبغي أن تأتيا معاً إلى هنا، وسيتعين عليكما أن تنصرفا كلّ على حدة». ثم أشار برأسه نحو جوليا وقال: «أنت أيتها الرفيقة ستغادرين أولاً، لكن ما زال لدينا عشرون دقيقة يمكننا التصرف فيها كيفما نشاء وسأسألكما بعض الأسئلة:
بصفة عامة ما الذي أنتما على استعداد للقيام به؟»
فأجاب ونستون: «إننا على استعداد لعمل كل شيء».
استدار أوبراين قليلاً في كرسيه حتى أصبح في مواجهة ونستون تماماً متجاهلاً بذلك جوليا تقريباً، وكأنه أدرك بداهة أن ونستون يمكنه التحدث بالنيابة عنها. وللحظة خفق جفنا عينيه ثم أخذ يلقي أسئلته بصوت منخفض تخلو نبراته من أي انفعال وكان ذلك روتين اعتاده أو نوع من الاستجوابات التي يعرف إجاباتها مسبقا:
- هل أنتما مستعدان لبذل حياتكما؟
- أجل.
- وهل أنتما على استعداد لاقتراف جريمة قتل؟
- أجل.
- وهل أنتما على استعداد للقيام بأعمال تخريبية قد تودي بحياة مئات الأرواح البريئة؟
- أجل.
- وهل أنتما على استعداد لخيانة وطنكما لحساب قوى أجنبية؟
- أجل.
- وهل أنتما على استعداد لاقتراف جرائم الغش والتزييف والابتزاز وإفساد عقول الأطفال وتوزيع العقاقير المسببة للإدمان، وتشجيع البغاء ونشر الأمراض الجنسية والإقدام على كل ما من شأنه أن يحطم معنويات الحزب ويوهن من سلطانه؟
- أجل.
- وإذا افترضنا أن المصلحة تقتضي أن تلقيا بحمض الكبريت على وجه طفل، فهل لديكما الاستعداد لاقتراف مثل ذلك العمل؟
- أجل.
- وهل أنتما مستعدان لأن تتنكرا وتمضيا بقية حياتكما كخادمين أو عاملين في أحواض بناء السفن؟
- أجل.
- وهل أنتما على استعداد للانتحار متى وإذا ما طلبنا منكما ذلك؟
- أجل.
- وهل أنتما مستعدان، كلاكما، لأن تنفصلا بحيث لا يرى أحدكما الآخر مرة ثانية وإلى الأبد؟
وهنا صرخت جوليا مقاطعة: «كلا».
أما ونستون فقد احتاج إلى وقت أطول ليجيب، بل شعر أنه فقد القدرة على النطق. فقد كان يقلقل لسانه فلا يلفظ سوى حروف غير مفهومة، مجرد مقاطع مبتسرة ومتداخلة، وظل يحاول حتى لفظها في النهاية، فقال: «لا».
فقال أوبراين: «لقد أحسنتما صنعاً بإخباري ذلك، فمن الضروري لنا أن نعرف كل شيء».
واستدار ناحية جوليا ثم أضاف بصوت أكثر إيحائية:
- هل تعلمين أنه حتى لو كتب له البقاء حياً فانه قد يصبح شخصاً مختلفاً غير الذي تعرفينه؟ إذ قد نضطر إلى إعطائه شخصية جديدة وذلك بتغيير وجهه وحركاته وشكل يديه ولون شعره بل وحتى صوته. وأنت نفسك ربما تصبحين شخصاً مختلفاً، ففي مقدور جراحينا أن يغيروا الأشخاص حتى ليتعذر معرفتهم، بل وقد نلجأ مضطرين أحيانا إلى بتر عضو من أعضاء الجسم.
لم يستطع ونستون أن يمنع نفسه من النظر بطرف عينيه نظرة خاطفة إلى وجه مارتن ذي القسمات المنغولية، والذي لم يكن يحمل أي ندبات ظاهرة. أما جوليا فقد ازداد وجهها شحوباً وظهر ما فيه من نمش، لكنها ظلت ترمق أوبراين بنظرة جسورة وتمتمت بكلمات فهم منها أنها موافقة. فقال أوبراين: «حسناً، لقد اتفقنا إذن».
وكانت فوق المائدة علبة سجائر فضية اللون دفعها أوبراين نحوهما وهو شارد الذهن بعدما استل سيجارة لنفسه، ثم نهض من مكانه وأخذ يذرع أرض الغرفة كما لو أنه يفكر بشكل أفضل حينما يكون واقفا. وكانت السجائر من النوع الفاخر جداً، غليظة وملفوفة بشكل جيد بورق ناعم الملمس كالحرير.
تطلع أوبراين مرة ثانية إلى ساعته، ثم قال: «يحسن بك أن تعود إلى المطبخ يا مارتن، سأعيد تشغيل الشاشة. انظر ملياً إلى وجهَي هذين الرفيقين قبل أن تنصرف فسوف تراهما مرة ثانية، أما أنا فربما لن أراهما أبدًا».
ارتعشت عينا مارتن الضيقتين وهو يحدق بوجهيهما، تماماً مثلما فعل عندما استقبلهما لدى الباب، ولم تكن في طريقته هذه أي علامة على الود والصداقة، وكان يحاول أن يرسخ في ذاكرته ملامحهما وإن كان لم يشعر بأي اهتمام بهما أو بدا كأنه لا يشعر بذلك، وتنبه ونستون إلى أن وجهاً آلياً كهذا ربما لا يقدر على تغيير تعبيراته. ثم انصرف مارتن دون أن ينبس بكلمة أو يلقي تحية وداع عليهم وأوصد الباب خلفه بهدوء. وكان أوبراين لا يزال يذرع الغرفة جيئة وذهاباً وقد دفن إحدى يديه في جيب ثوبه الأسود بينما كان يحمل في اليد الأخرى سيجارة، وأخيرا قال:
«يجب أن تفهما جيداً أنكما ستقاتلان في الظلام، وستظلان دائما في الظلام. ستتلقيان أوامر وما عليكما إلا السمع والطاعة ودونما أن تسألا لماذا. وبعد فترة سوف أرسل لكما بكتاب يمكنكما من خلاله أن تفهما الطبيعة الحقة للمجتمع الذي نعيش فيه والاستراتيجية التي نتبناها من أجل تقويض أركانه، وبعد أن تقرآ الكتاب ستصبحان عضوين كاملي العضوية في تنظيم الأخوة. ولكن ما عدا الأهداف العامة التي نناضل من أجلها ومهام اللحظة الآنية التي تسند إليكما، لن تعرفا أي شيء على الإطلاق. وما أود تأكيده لكما هو أن حركة الأخوة موجودة، لكنني لا أستطيع أن أؤكد لكما ما إذا كانت تضم المئات أو الملايين من الأعضاء. وأما أنتما فمن خلال معلوماتكما الشخصية فلن تقدّرا عددها بأكثر من عشرة أعضاء، إذ ستقتصر اتصالاتكم على ثلاثة أعضاء أو أربعة يتغيرون من حين لأخر ثم لا يلبثون أن يختفوا ليحل محلهم آخرون. أما وإنني أول اتصال لكما فإن هذا سيظل قائماً لا يتغير، وعندما تتلقيان أوامر فستكون صادرة عني، وإذا ما تبين لي أن من الضروري الاتصال بكما فسيكون ذلك عبر مارتن. وإذا ما ألقي القبض عليكما في نهاية الأمر فسوف تعترفان إذ لن يكون ممكناً تجنّب ذلك، بيد أن ما ستعترفان به لن يتجاوز أعمالكما التي اقترفتماها، ولن يكون في مقدوركما أن تشيا بأكثر من حفنة من الأشخاص الذين لا قيمة لهم. بل وربما لا تستطيعان حتى أن تشيا بي لأنني وقتذاك ربما أكون في عداد الموتى وربما أصبح شخصاً آخر بوجه آخر».
وظل أوبراين يذرع الغرفة جيئة وذهاباً فوق السجادة الناعمة. وبالرغم من ضخامة جسمه فقد كانت حركاته رشيقة، تلك الرشاقة التي بدت في حركة يده وهو يدسها في جيبه أو ينقل بها السيجارة بين أصابعه. وكان أوبراين قد ترك في نفسيهما انطباعاً يوحي بثقة بالنفس وإدراك للأمور مفعم بالسخرية فضلاً عن القوّة. ورغم مظهره الذي يوحي بالجديّة، لم تكن عقليته تتسم بأي تعصّب أحادي الاتجاه أو تعالي. وحينما كان يأخذ في الحديث عن الاغتيال والانتحار والأمراض الجنسية والأطراف المبتورة والوجوه المغيرة، كان يشوب لهجته شيء من التهكم، فكان يقول من بين ما يقول: «هذه أمور لا بد منها، إنها أمور يتعين علينا أن نؤديها دون أن تطيرت لنا عين، ولكن ليس هذا هو ما سنقوم به حينما تصبح الحياة خليقة بأن تُعاش». وشعر ونستون بموجة إعجاب، يُقارب العبادة، تجاه أوبراين، وفي هذه اللحظة كان قد تلاشى من مخيلته شبح غولدشتاين. وكان المرء حينما ينظر إلى أوبراين ببنيانه القوي ووجهه ذي الملامح القاسية، الذي كان يبدو قبيحاً ومهذباً في آن معاً، لا يمكن أن يتصوّر أن مثل هذا الشخص تمكن هزيمته، فهو كفء لمواجهة كل مشكلة، وليس ثمة خطر لا يمكنه التنبؤ به، حتى جوليا أَسَرَتْها شخصيته، إذ تركت سيجارتها تنطفئ وهي تصغي إليه بجميع جوارحها، بينما كان أوبراين مستطرداً في حديثه:
«لا بد أنكما سمعتما شائعات حول حركة «الأخوة» ووجودها، ولا ريب في أنكما رسمتما لها صورة في مخيلتكما، وقد تكونان خلتماها عالماً سرياً هائلاً من المتآمرين، يعقدون الاجتماعات خفية في الأقبية، وينقشون رسائلهم على الجدران ويتعارفون بكلمات سرية أو بإشارات متفق عليها باليدين. لكن اعلموا أن شيئاً من هذا ليس له وجود، فأعضاء الحركة ليس لديهم أي وسيلة للتعارف ومن المستحيل على أي عضو أن يكشف هوية أكثر من بضعة أعضاء آخرين، وحتى غولدشتاين نفسه لو وقع في قبضة شرطة الفكر فلن يكون بمقدوره أن يعطيهم قائمة كاملة بالأعضاء أو أي معلومات تقودهم إلى القائمة الكاملة، فليس لمثل هذه القائمة وجود، ولتعلما أن منظمة الأخوة لا يمكن استئصال شأفتها أبداً وذلك لأنها ليست منظمة بالمعنى المعروف للكلمة ولا يجمع بين أعضائها سوى فكرة تستعصي على التدمير، ولن تجدا شيئاً يشد من أزركما غير تلك الفكرة، كما لن تجدا تشجيعاً أو مواساة رفاقية من أحد، وحتى عندما تُعتقلان في النهاية فلن يمد لكما أحد يد العون، فنحن لا نقدم على ذلك أبداً مع الأعضاء. وحينما يتبين لنا أن ضرورة قصوى تستوجب إسكات شخص ما من الذين ألقي القبض عليهم، فإننا في العادة نقوم بتهريب شفرة حلاقة إلى زنزانة السجين. ويتوجب عليكما أن تعتادا على العيش بلا أمل ودون انتظار لجني النتائج لأنكما ستناضلان لحين من الزمن، ثم يلقى القبض عليكما فتعترفان وتقادان إلى الموت. تلك هي النتائج الوحيدة التي ستلمسونها لأنه لا يُتوقع أن تحدث أي تغييرات محسوسة في المستقبل القريب، وفي ظل هذه الحال نحن أموات ولا حياة لنا إلا في المستقبل الذي سوف نسهم في بنائه كذرّات غبار أو كشظايا عظام، ولكن كم يبعد هذا المستقبل عن حاضرنا؟ لا أحد يعلم، فربما يأتي بعد آلاف السنين، وما علينا في وقتنا الراهن إلا أن نوسع دائرة انتشار فكرتنا شيئاً فشيئاً. ولأننا لن نستطيع العمل بصورة جماعية، فلا سبيل أمامنا إلا أن ننشر أفكارنا من فرد إلى فرد ومن جيل إلى جيل، وما من سبيل غير هذا يمكن أن نسلكه في مواجهة شرطة الفكر».
عند هذا الحد توقف أوبراين وتطلّع إلى ساعته للمرة الثالثة، ثم قال مخاطباً جوليا:
- لقد حان وقت انصرافك أيتها الرفيقة، لكن مهلا، فما زالت القنينة ملآنة حتى نصفها.
ثم أترع الكؤوس ورفع كأسه قائلاً:
«نخب من سنشرب هذه المرة؟» قالها بنبرة مفعمة بالتهكم والسخرية. «هل نشرب نخب الفوضى التي ستعم شرطة الفكر؟ أم نخب موت الأخ الكبير؟ أم نخب الإنسانية؟ أم نخب المستقبل؟»
فقال ونستون: «بل نخب الماضي».
فأقرّه أوبراين برزانة على هذا قائلاً: «نعم إن الماضي أهم».
وعندما انتهوا من احتساء كؤوسهم نهضت جوليا استعداداً للانصراف، فأخذ أوبراين علبة من أعلى الخزانة وناولها قرصاً أبيض لتضعه في فمها قائلاً: «من المهم الا يخرج المرء ورائحة الخمر تفوح من فمه فلدى عمال المصاعد قوة ملاحظة فائقة». وما إن أوصدت الباب خلفها حتى بدا على أوبراين وكأنه نسي أمرها. وعاد يذرع الغرفة مرة أو مرتين ثم لم يلبث أن توقف مخاطباً ونستون:
- ما زالت هنالك بعض التفاصيل التي يجب الاتفاق بشأنها، أعتقد بأن لديك مخبأ في مكان ما، أليس كذلك؟
فشرح له ونستون كل شيء عن غرفته التي استأجرها فوق حانوت السيد شارنغتون.
فقال أوبراين: «لا بأس بها حتى حين. وسوف نتدبر لكما مكاناً آخر فيما بعد، فمن المهم أن يغير المرء مخبأه من حين لآخر، ولسوف أرسل لك بنسخة من الكتاب، كتاب غولدشتاين حالما يتيسر لي ذلك». هنا لاحظ ونستون أن أوبراين نفسه يلفظ كلمة كتاب بنبرة مميزة. «وقد لا أتمكن من الحصول على نسخة منه إلا بعد أيام، فالنسخ المتوفرة ليست بالكثرة التي تتصورها، فشرطة الفكر تتعقب النسخ وتتلفها فوراً، لكن ذلك لن يؤثر فينا، فالكتاب لا يمكن أن يفنى، فحتى إذا ما أتلفت النسخة الأخيرة منه فإن في وسعنا أن نعيد كتابته حرفاً حرفاً»، ثم أضاف: «هل تحمل حقيبة يد معك عادة إلى العمل؟»
أجاب ونستون: «نعم... في العادة».
- وما شكلها؟
- سوداء وقديمة جداً وذات حزامين.
- حسناً... ذات صباح في المستقبل القريب، إذ لا يمكنني التحديد، ستجد بين رسائل عملك الصباحي رسالة تحتوي على أخطاء مطبعية، وعليك أن تطلب إعادة إرسالها، وفي اليوم التالي سيتعين عليك أن تتوجه إلى عملك دون أن تحمل حقيبتك معك، وفي وقت ما من النهار وأثناء سيرك في الطريق، سيستوقفك رجل وهو يقول: «أظن أن حقيبتك قد سقطت منك» وسيعطيك محفظة، تحتوي على نسخة من كتاب غولدشتاين يتعين عليك قراءتها وردّها في غضون أسبوعين.
وساد الصمت لحظة قبل أن يكسره أوبراين بقوله:
- أمامك دقيقتان ويحين موعد انصرافك، سوف نلتقى ثانية إذا قُدِّرَ لنا أن نلتقي...
ونظر ونستون إليه قائلاً بنبرة تودّد: «في المكان الذي لا ظلام فيه».
فأومأ أوبراين برأسه دون أن يبدو عليه أي أثر للدهشة. وقال كما لو أنه أدرك ما يلمّح إليه ونستون: «نعم في المكان الذي لا ظلام فيه». ثم أردف قائلاً: «والآن هل لديك ما تود قوله قبل انصرافك؟ أي رسالة؟ أي تساؤل؟»
أطرق ونستون هنيهة. لم تكن لديه أي تساؤلات أخرى، كما لم يكن لديه أدنى رغبة في أن يتحدث عن شؤون عامة. وبدلاً من أن يخطر بباله شيء ذو صلة بأوبراين أو بحركة الأخوة، طرقت ذهنه صورة مركبة من كل من الغرفة المعتمة التي أمضت فيها أمه أيامها الأخيرة والغرفة الضيقة الكائنة فوق حانوت السيد شارنغتون والثقل الزجاجي وصورة القضبان المحفورة في إطار اللوحة المصنوع من خشب الورد، فقال بصورة عفوية:
- هل سبق أن تناهى إلى سمعك قصيدة قديمة يقول مطلعها: «تقول أجراس سانت كليمنت: برتقال وليمون؟»
فأومأ أوبراين برأسه ثانية، وقال بنبرة رزينة مكملاً المقطع:
«تقول أجراس سانت كليمنت، برتقال وليمون
فتقول أجراس سانت مارتن، أنت مدينة لي بثلاث فارذن
فتقول أجراس أولد بايلي، متى ستدفع لي؟
فتقول أجراس شورديتش، حينما أصبح ثريا»
فقال ونستون متعجباً: «إنك تعرف البيت الأخير!»
- نعم أعرفه، والآن حان وقت انصرافك. ولكن مهلاً حتى أعطيك قرصاً لتزيل رائحة الفم.

وعندما نهض ونستون مدّ له أوبراين يده مصافحاً بقوة حتى كادت قبضته القوية تسحق عظام كف ونستون. وعند الباب تطلع ونستون وراءه ليلقي نظرة أخيرة، لكن بدا له أن أوبراين كان قد وضعه بالفعل خارج دائرة تفكيره، إذ كان أوبراين ينتظر انصرافه ويده فوق الزر الذي يتحكم في تشغيل شاشة الرصد. ونظر ونستون وراء أوبراين فوجد طاولة الكتابة وفوقها المصباح ذو الظلال الخضراء وآلة التسجيل والأوراق. وانتهى اللقاء. وخطر لونستون أنه في غضون ثوان معدودات سيعود أوبراين إلى عمله الهام الذي يقوم به لصالح الحزب والذي قطعته الزيارة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق