السبت، 27 مايو 2017

الجزء الثالث - الفصل 1

الفصل الأول



لم يكن ونستون يدري أين هو! كان يُفترض أنه في وزارة الحب، لكن كيف السبيل للتحقق من ذلك.
كان قابعًا في زنزانة عالية السقف لا نوافذ لها، وكانت جدرانها مغطاة بالخزف الأبيض اللامع، وكانت كانت مصابيح مخفية تغمرها بفيض من الضوء الباهر، كما كان هناك طنين مستمر ظن ونستون أن له علاقة بفتحات التهوئة بالزنزانة. وبمحاذاة جدران الزنزانة امتد مقعد خشبي مستطيل لا يتسع عرضه للجلوس عليه إلا بصعوبة، وفي الجانب المقابل للباب كان هنالك مرحاض بلا كرسي يستعمل لقضاء الحاجة، وفي كل جدار من جدران الزنزانة الأربعة ثبتت شاشة رصد.
وكان ونستون يشعر بألم مبرح ومتواصل في بطنه رافقه منذ أن اقتادوه وقذفوا به في الشاحنة المغلقة التي نقلته. ولكنه كان يشعر أيضا بجوع قارص وشديد، فلربما مضى على آخر مرة ذاق فيها طعاماً أربع وعشرون أو ست وثلاثون ساعة. ولم يستطع، كما لن يتسنى له، أن يعرف إن كانوا قد ألقوا القبض عليه في الصباح أو المساء.
جلس ونستون فوق المقعد لا يحرك ساكناً وقد عقد ذراعيه حول ركبتيه، وكان قد تعلّم أن يجلس بلا حراك بعدما أدرك أن أي حركة غير متوقعة يأتي بها تجعل صوتاً ينبعث من شاشة الرصد ينهره عن ذلك. واشتدت وطأة الجوع عليه، ومع ذلك لم يشته أكثر من كسرة خبز تذكر أن لديه بعضاً منها في جيب معطفه كان يشعر بها من حين لآخر تخز ساقه. وبعد طول تردد، تغلب إحساسه بالجوع على خوفه فدس يده في جيبه.
ولم يكد يفعل حتى استوقفه صوت صارخ من شاشة الرصد: «سميث! سميث ونستون رقم 6079، أخرج يدك من جيبك، هذا غير مسموح به في الزنزانة!»
فعاد إلى سكونه الذي كان عليه وعقد ذراعيه حول ركبتيه. وتذكر كيف أنهم قبل أن يجيئوا به إلى هنا قد ذهبوا به إلى مكان آخر يرجح أنه سجن عادي أو مركز توقيف تستخدمه الدوريات، لكنه لم يستطع أن يعرف كم من الوقت أمضى هناك فقد كان يتعذر عليه قياس الوقت، كان مكانا صاخبا تتصاعد منه روائح كريهة. كانت زنزانة أشبه بتلك التي يقبع فيها الآن وان كانت أشد قذارة وتكتظ بعشرة أو خمسة عشر سجيناً أغلبهم من المجرمين العاديين وقليلهم من السجناء السياسيين. وهناك جلس صامتاً وقد أسند ظهره للحائط فيما كانت تزاحمه أجساد قذره، ورغم أن الخوف والألم قد استحوذا عليه وصرفاه عن كل ما حوله، فقد استطاع ملاحظة الفارق الواضح بين تصرفات السجناء من أعضاء الحزب وتصرفات السجناء العاديين، فالسجناء الحزبيون كانوا دائماً يلزمون الصمت وتبدو عليهم علامات الخوف والرعب، أما المجرمون العاديون فكانوا لا يأبهون ولا يبالون بأحد حتى أنهم كانوا يكيلون السباب للحراس، ويدافعون عن أمتعتهم بشراسة ويكتبون الكلمات البذيئة على الأرض ويأكلون الطعام المهرب من خارج السجن بل وكانوا يصرخون في وجه شاشة الرصد حينما توجه إليهم عبرها الأوامر بالتزام الهدوء. ومن جهة أخرى كان بعضهم يبدو وكأنه على علاقة تفاهم مع الحراس فينادونهم بأسمائهم رافعين الكلفة فيما بينهم ويحصلون على السجائر عبر ثقوب التجسس التي في الباب، كما كان الحراس يعاملون المجرمين العاديين بشيء من الصبر والأناة حتى حينما كانت الظروف تقتصي الغلظة معهم. وكانت تدور بينهم أحاديث كثيرة حول معسكرات الأشغال الشاقة وهي المكان الذي يساق إليه غالبية السجناء، ومن هذه الأحاديث استشف ونستون أن الحياة في هذه المعسكرات لا بأس بها إذا استطاع السجين أن يكوّن علاقات جيدة وأن يعرف كيف يصرّف أموره داخل المعسكر. وكانت ممارسات مثل الرشوة والمحاباة والعربدة بكل ألوانها، والشذوذ الجنسي والدعارة تتفشى داخل هذه المعسكرات، بل كان يتم الحصول على المشروبات الروحية عبر تقطيرها من البطاطس. ولم يكن أحد يحظى بثقة الحراس إلا المجرمون العاديون وبالأخص القتلة وأفراد العصابات منهم والذين كانوا يمثلون شكلا من أشكال الأرستقراطية. وأما المجرمون السياسيون فقد كان يعهد إليهم بجميع الأعمال القذرة.
ورأى ونستون أن سجناء من شتى الألوان يفدون إلى السجن أو يخرجون منه في حركة لا تتوقف، فمنهم تجار المخدرات واللصوص وقطاع الطرق وتجار السوق السوداء ومدمنو الخمر والعاهرات. وكان بعض مدمني الخمر يصلون إلى حالة من الانفلات تضطر بقية زملائهم للتكتل ضدهم والسيطرة على هذا العنف، كما يذكر أن أربعة حراس قد جاؤوا بامرأة ضخمة الجسم يناهز عمرها الستين وذات شعر أشيب ونهدين كبيرين وكانت تقاومهم بعنف وتصرخ فيهم وهم يجرونها إلى الزنزانة من أطرافها الأربعة، وفي النهاية جردوها من حذائها الذي كانت تركلهم به ثم دفعوها بعنف فسقطت فوق حجر ونستون وكادت تكسر عظامه، لكنها نهضت واندفعت نحو باب الزنزانة وهي تلعن الحراس وتسبهم بأقذع الكلمات، وحينما انتبهت إلى أنها كانت تجلس على شيء غير مستو انزلقت عن ركبة ونستون إلى المقعد قائلة:
«معذرة يا عزيزي، ما كان يجب أن أجلس فوق ركبتيك، ولكن هؤلاء الأوغاد هم الذين دفعوني. إنهم لا يعرفون كيف ينبغي أن يعاملوا سيدة»، ثم توقفت عن الكلام وضربت بيدها على صدرها وهي تقول: «معذرة فلست في حالة طبيعية».
وانحنت إلى الأمام وتقيأت على الأرض.
وبعد ذلك أسندت ظهرها إلى الحائط مغمضة عينيها وقالت: «هذا أفضل، إياك أن تبقيه في معدتك، يحسن بك أن تتخلص منه وهو طرياً».
وحينما هدأت قليلاً، التفتت لتلقي نظرة أخرى على ونستون، وبدا أن آصرة من نوع ما قد جعلتها تميل إليه فأحاطت كتفيه بذراعها وجذبته نحوها وهي تنفث في وجهه بأنفاس مشبعة برائحة الجعة وحموضة القيء.
وسألته: «ما اسمك عزيزي؟»
فأجاب: «سميث».
فقالت: «سميث؟ هذا أمر عجيب، إن اسمي سميث أيضاً»، ثم أضافت بنبرة حانية: «ربما كنت أمك!»
وجال بخاطر ونستون أنه من المحتمل فعلاً أن تكون أمه، فقد كانت في مثل عمرها وجسمها وإن كان من الوارد أن بعض التغيير قد طرأ عليها بعد عشرين سنة أمضتها في معسكر الأشغال الشاقة.
وما من أحد آخر تحدث مع ونستون، إذ كان المجرمون العاديون يتجاهلون السجناء السياسيين تجاهلاً يثير الدهشة، بل وينظرون إليهم نظرة ازدراء. وأما السجناء السياسيون فكانوا دائمي الصمت فهم يخشون الكلام مع أي من المجرمين العاديين، كما أنهم أشد خشية من الكلام بعضهم مع بعض. ولم يحدث سوى مرة واحدة أن استرق السمع لحديث هامس دار بين سجينتين من سجينات الحزب ولم يفهم منه سوى أنه كان يدور حول ما يدعى بالغرفة (101) لكنه لم يدرك المغزى.
لعلهم قد جاؤوا به إلى هنا قبل ساعتين أو ثلاث ومع ذلك لم يفارقه ألم معدته لحظة من الزمن، وإن اشتد عليه حيناً وخف حيناً آخر، وكان نطاق تفكيره يتسع أو يضيق تبعاً لذلك، فحينما كان يشتد عليه الألم كان لا يفكر إلا في الألم ذاته وفي رغبته في الطعام، أما حينما يخف فكان الرعب يمسك بتلابيبه، كما مرت به لحظات كان يتراءى له خلالها المصير الذي ينتظره وهو ما كان يرتجف له قلبه وتتوقف أنفاسه. فقد كان يتخيل وطأة الهراوات وهي تحطم مرفقيه والأحذية ذات النعال الحديدية وهي تهشم ساقيه، كما تراءى له وهو يُسحل فوق الأرض ويصرخ طلباً للرحمة بعد أن تهشمت أسنانه. وقلما كانت ترد جوليا على خاطره لأنه كان لا يستطيع أن يركز تفكيره عليها، نعم لقد أحبها ولن يخونها، (ولكن هذا الحب كان مجرد حقيقة يعرفها معرفته لمبادئ الرياضيات) ولذلك لم يعد الآن يجد أثراً لأي حب نحوها، بل لم يعد حتى يشغل باله بما عساه ألمَّ بها. ولكن أوبراين كان هو الذي يخطر بباله كثيراً فيعيد إليه بصيصاً من الأمل، فيقول لنفسه لا بد أن أوبراين قد علم بأمر اعتقاله، لكنه تذكر أن حركة «الأخوة» لا تحاول أبداً إنقاذ أعضائها، إلا أنه تبقى أمامهم دائماً شفرة الحلاقة التي يمكنهم أن يهربوها إليه ليضع بها حداً لآلامه. وتصور أن خمس ثوان تكفي لأن يمزق نفسه بالشفرة وببرودة حارقة، بل إن الأصابع الممسكة بالشفرة ستتقطع حتى العظام هي الأخرى قبل أن يندفع إليه الحراس لمنعه من ذلك. وكان كل شيء يرتد على جسمه العليل الذي كان يرتجف من أقل ألم، ومع ذلك لم يكن واثقاً بأنه سيستخدم الشفرة حتى إذا أتيحت له الفرصة، فقد كان من الطبيعي لديه أن يعيش لحظة بلحظة مفضلًا الحياة على الموت حتى لو كان على يقين من أن تلك الحياة لن تتجاوز عشر دقائق وستكون كلها عذاباً في عذاب.
وكان ينصرف أحياناً إلى إحصاء عدد بلاطات الخزف الأبيض على جدران الزنزانة، ومع أن الأمر كان يبدو هيناً فانه لم يوفق إلى ذلك. وكثيراً ما كان يتساءل عن مكان وجوده وعن الوقت أهو ليل أم نهار. فتارة يشعر بأنه من المؤكد أن ضوء النهار يملأ الكون خارج الزنزانة، وتارة أخرى وفي الوقت نفسه تقريباً يشعر أن ظلاماً دامساً يخيم على العالم بالخارج. كان ونستون يعلم بالغريزة أن الأنوار في هذا المكان لا يمكن أن تطفأ، إنه ذلك المكان الذي لا ظلمة فيه، الأن فطن إلى السبب الذي جعله يظن أن أوبراين فهم إشارته عندما حدثه عن المكان الذي لا ظلام فيه، ففي وزارة الحب ليس ثمة نوافذ وزنزانته ربما تكون في قلب البناية أو عند الحائط الخارجي، وقد تكون في الطابق العاشر تحت الأرض أو في الطابق الثلاثين فوق الأرض. وقد راح ونستون ينتقل بمخيلته من مكان لآخر محاولاً أن يقرر بحسه العام ما إذا كانت زنزانته معلقة في الهواء أم مدفونة في أعماق سحيقة.
سمع ونستون وقع أقدام خارج الزنزانة، بعدئذ فُتح الباب الفولاذي محدثاً صريراً عاليًا ودخل منه ضابط شاب يرتدي بزة سوداء يلمع جلدها المصقول وكان ذا وجه شاحب يشبه قناعاً من الشمع، وما إن دخل الزنزانة حتى أشار إلى الحرس أن يُدخِلوا السجين الذي كانوا يقتادونه والذي لم يكن غير الشاعر أمبلفورث. أدخلوه الزنزانة وهو يجرجر قدميه ثم غادروا وأغلقوا الباب خلفهم.
راح أمبلفورث يتحرك داخل الزنزانة من طرف إلى طرف كما لو أنه يبحث عن باب للخروج، وبعدئذ أخذ يذرع الزنزانة جيئة وذهاباً، ولم يكن قد انتبه إلى وجود ونستون بعد رغم أن عينيه الزائغتين كانتا تحدقان في الجدار الذي يتكئ إليه ونستون. كان أمبلفورث حافي القدمين وكانت أصابع رجليه الكبيرة القذرة تبرز من ثقوب جوربه المهترئ ولحيته الكثة تغطي وجهه حتى عظم وجنتيه مضفية عليه هيئة وحشية كانت تتلاءم على نحو غريب مع هيكله الضخم وحركاته العصبية.
حرّك ونستون نفسه من سباته عازماً على الحديث مع أمبلفورث مهما كانت العواقب، فربّما كان هو من يحمل شفرة الحلاقة إليه.
فناداه: «أمبلفورث».
لم يصدر أي صوت عن شاشة الرصد، في حين توقف أمبلفورث وقد جفل جفلة خفيفة، ثم ركز عينيه على ونستون وقال:
- آه! ونستون! أأنت هنا أيضاً؟
- لماذا جيء بك إلى هنا؟
- الحق أقول لك ...، قال ذلك وهو يجلس قلقاً على المقعد قبالة ونستون، إنه جرم واحد لا غير.
- لكن هل اقترفته فعلاً؟
- يبدو لي أنني فعلت ذلك.
وفرك أمبلفورث جبينه بيده وضغط عليها للحظة كأنما يحاول أن يتذكر شيئاً ما.
ثم قال على نحو غامض: «إن مثل هذه الأشياء ممكنة الحدوث، فيمكنني أن أحدد لك حادثاً لعله هو السبب في مجيئي إلى هنا، إنه ولا ريب حماقة من جانبي. فقد كنا نعمل في إنتاج طبعة من قصائد كبلنج وأبقيت على كلمة «الله» في نهاية أحد الأبيات وكان لا بد من الإبقاء عليها لملاءمة القافية». وأضاف وقد علت علامات السخط على وجهه: «لقد كان من المستحيل تغيير البيت الشعري، وقد حاولت على مدى أيام التفكير في بديل لكن دون جدوى».
وتغيرت أسارير وجهه وذهب عنه الغضب وبدا للحظة راضياً حيث شاع في وجهه شيء من دفء الثقافة، إنه ابتهاج المتحذلق الذي اكتشف حقيقة لا قيمة لها.
وأردف قائلاً: «هل خطر ببالك أن تاريخ الشعر الإنجليزي كان محكومًا بحقيقة أن اللغة الإنجليزية فقيرة في الأوزان؟»
ولم يكن ذلك السؤال قد خطر ببال ونستون مطلقا، فضلا عن أن مَنْ في مثل ظروفه لا يأبه أو يهتم بذلك.
فسأله ونستون: «هل تعرف في أي وقت من اليوم نحن الآن؟»
وبدا أن أمبلفورث جفل ثانية وقال: «قلّما فكرت في ذلك، إنني حتى لا أذكر مذ كم يوم أُلقي القبض علي؟ مذ يومين أم ثلاثة؟» وراح يقلب عينيه في جوانب الغرفة كمن يأمل أن يجد نافذة، ثم أضاف: «في هذا المكان لا فرق بين الليل والنهار ولست أدري كيف يمكن للمرء أن يقدر الزمن فيه».
واستمر حديثهما الهائم بضع دقائق ثم ومن دون سبب واضح صدر صوت عن شاشة الرصد يأمرهم بالتزام الصمت. فعاد ونستون لسكونه وقد عقد ذراعيه حول ركبتيه. أما أمبلفورث فقد حال بنيانه الضخم بينه وبين الجلوس مرتاحاً على المقعد الصيق، وراح يتململ في جلسته ناقلاً يده من ركبته هذه إلى تلك. إلا أن صوتاً نبعث ثانية من شاشة الرصد يأمره بالسكون. ومرَّ وقت وهما على هذه الحال، ربما عشرون دقيقة أو ساعة، ثم سمعا ثانية وقع أقدام خارج الزنزانة، فتجمد الدم في عروقه، وجال بخاطره ألن وقع الأقدام تعني أن دوره قد حان، ربما حالا وربما خلال دقائق.
وفُتح الباب ليدخل منه الضابط الشاب ذو الوجه المتجهم. وبحركة خاطفة من يده قال للحراس وهو يشير إلى أمبلفورث: الغرفة 101.
نهض أمبلفورث ومشى مهرولاً بين يدي الحراس، وقد بدا وجهه مضطرباً رغم أنه لم يفهم ماذا يراد به.
ثم مضى وقت بدا لونستون طويلاً، وعاوده ألم معدته. وراحت أفكاره تدور في حلقة مفرغة مثل كرة تدور وتسقط في المجموعة نفسها من الفتحات، إذ لم يكن يفكر إلا في ستة أمور هي: ألم معدته، وكسرة الخبز التي في جيبه، والدم والصراخ، وأوبراين، وجوليا، وشفرة الحلاقة. ثم اعترته نوبة تشنج جديدة في أحشائه لدى سماعه وقع أقدام الحراس وهم يقتربون نحو الزنزانة. وما إن فتح الباب حتى هبت موجة باردة من العرق كانت تتقدم بارصون الذي أدخله الحراس إلى الزنزانة، والذي كان مرتدياً قميصاً رياضياً وسروالاً قصيراً.
وهنا جفل ونستون حتى أنه نسي نفسه وقال مشدوها: «حتى أنت هنا؟»
ورمق بارصون ونستون بنظرة خلت من أي اهتمام أو دهشة لكنها كانت مفعمة بالبؤس، وراح يذرع الغرفة جيئة وذهاباً بخطى غير منتظمة وبصورة توحي بأن زمام نفسه قد أفلت منه. وكان كلما حاول مد ساقيه القصيرتين أصابتهما رعشة، وعيناه كانتا جاحظتين تنظران باندهاش وكأنهما تحدقان في شيء بعيد.
فسأله ونستون: «ما الذي جاء بك إلى هنا؟»
فأجاب بارصون منتحباً: «جريمة فكر». كانت نبرة صوته توحي بإقرار كامل منه باقتراف الجريمة وبرعب يعتمل بداخله كلما تذكر أنه يقع تحمت طائلة هذا الاتهام، ثم وقف قبالة ونستون وكأنما يحتكم إليه، فقال: «أتظن أنهم سيعدمونني رمياً بالرصاص؟ إنهم لا يرمون المرء بالرصاص إذا لم يقترف إثماً ملموساً، أما مجرّد الأفكار فهذا ما لا سلطة للمرء عليه، أليس كذلك؟ أعلم أنهم يمنحون المرء فرصة كافية للإدلاء بأقواله، إنني أثق بهم فيما يخص ذلك. إنهم يعرفون سجلّي، أليس كذلك؟ لعلك تعرف أي نوع من الرجال كنت، لم أكن رجلاً سيئاً بأي شكل، صحيح أنني لم أكن متقد الذكاء ولكنني كنت متحمساً وبذلت كل ما في وسعي لخدمة الحزب، أليس كذلك؟ ألا تظن أنني سأفلت من عقوبة الموت وأنال خمس أو حتى عشر سنوات أمضيها في معسكر من المعسكرات؟ إن من هو مثلي يمكنه أن يؤدي أعمالا مفيدة في معسكرات الأشغال الشاقة، إنني لا أظنهم سيعدمونني رمياً بالرصاص لخروجي عن الطريق القويم مرة واحدة».
وسأله ونستون: «هل أنت مذنب؟»
فأجابه بارصون باكياً وهو ينظر إلى الشاشة نظرة خنوع:
«بالطبع إنني مذنب. وهل تظن أن الحزب يمكن أن يعتقل شخصاً بريئاً؟» وهنا بدا وجهه الشبيه بالضفدع أكثر هدوءاً، بل وارتسمت عليه علامات الاستقامة الزائفة، ثم استطرد قائلاً وعلامات التأثر بادية عليه:
«إن جريمة الفكر جريمة فظيعة، إنها جريمة غادرة، تتلبسك دون أن تتنبه. أتدري كيف تلبستني؟ أثناء نومي!  نعم، أثناء نومي. لقد كنت أؤدي عملي بنشاط ولم يخطر ببالي البتة أن مثل هذه الأفكار السوداء تختبئ في عقلي الباطن. ثم بدأت بعد ذلك أتكلم وأنا نائم. أَوَتدري ماذا سمعوني أقول؟»
وخفض صوته كشخص مضطر لدواعٍ طبية أن يتلفظ بكلمات بذيئة.
«لقد سمعوني أقول: ليسقط الأخ الكبير! نعم هذا هو ما قلته. ويبدو أنني أخذت في ترديده المرة تلو الأخرى، ولا أخفي عليك أنني مسرور من أنهم قد قبضوا عليّ قبل أن أذهب لأبعد من ذلك. هل تعلم ماذا أنوي قوله حينما أمثل بين يدي المحكمة؟ سأقول لهم: شكراً، شكراً لأنكم أنقذتموني قبل فوات الأوان».
فسأله ونستون: «لكن من الذي وشى بك؟»
فأجاب بارصون بنبرة حزينة مفعمة بالفخر: «إنها ابنتي الصغيرة، لقد كانت تسترق السمع من ثقب الباب وسمدت ما كنت أهذي به، وفي اليوم التالي بادرت لإبلاغ الدورية. إنها طفلة متقدة الذكاء رغم أنها لم تتجاوز السابعة. إنني لا أكنّ لها أي ضغينة جراء ذلك، بل على العكس إنني فخور بها لأن ذلك يعني أنني قد ربيتها تربية قويمة وغرست فيها روح الولاء».
ثم صدرت عنه بعض الاختلاجات المضطربة، فتارة يقف وأخرى يجلس وهو يمد بصره نحو المرحاض، ثم فجأة خلع سرواله وهو يقول:
- معذرة أيها العجوز إذ لم أعد أحتمل الانتظار أكثر من ذلك!
وألقى بمؤخرته الكبيرة فوق قاعدة المرحاض، فغطى ونستون وجهه بيديه إلا أن صوتاً عالياً انبعث من شاشة الرصد: سميث، ونستون سميث 6079، اكشف عن وجهك، فذلك غير مسموح به في الزنزانة. فكشف ونستون عن وجهه، لكنه تبين بعدما انتهى بارصون من استعمال المرحاض وبصورة فجة تثير الاشمئزاز أن سدادة البالوعة لا تعمل ما جعل الزنزانة تغص برائحة بغيضة ونتنة لساعات.
وأخيراً ذهب بارصون، فكثير من السجناء يجيئون ويذهبون دون أن يعلم أحد بما آل إليه مصيرهم، ومنهم امرأة ارتعدت فرائسها وامتقع لونها بمجرد أن سمعت الضابط يأمرها أن تذهب إلى الغرفة 101. وكان ونستون قد فقد الإحساس بالوقت ولم يعد يميز الليل من النهار. أما عن السجناء الآخرين فكانت الزنزانة تضم ستة موقوفين من الرجال والنساء، يجلسون بلا حراك وقد خيم عليهم جميعاً صمت مطبق. وقبالة ونستون كان يجلس رجل أشبه بحيوان مجتر ذي أسنان بارزة وذقن جرداء، كما كانت له أوداج منتفخة تبعث على الاعتقاد بأنه يختزن بعض الطعام في فمه، وكان ينتقل بعينيه خلسة من سجين إلى آخر حتى إذا ما التقت عيناه بعيني أحدهم أشاح بوجهه سريعاً.
وفُتح الباب مرة أخرى ليزج بسجين آخر إلى الزنزانة. وكانت هيئته تقشعر لها الأبدان. كان رجلاً عادياً ذا هيئة مزرية ولعله كان مهندساً أو فنياً من نوع ما، لكن الشيء الذي راع ونستون فيه هو وجهه الناحل الذي كان أشبه بالجمجمة. وبسبب نحافته كان فمه وعيناه يبدوان أوسع مما هما في الواقع وبصورة مشوهة، كما كانت نظراته تنطوي على غدر وكراهية متأججة يضمرها لشخص أو شيء ما.
جلس الرجل فوق المقعد على مقربة من ونستون، لكن ونستون لم يتطلع إلى وجهه ثانية وإن كان وجهه المعذب الأشبه بالجمجمة قد انطبع في مخيلته وكأنه يقف أمام عينيه مباشرة. وفجأة أدرك ونستون السر وراء هذا النحول، لقد كان الرجل يتضور جوعاً. ويبدو أن جميع سجناء الزنزانة قد فطنوا إلى ذلك في الوقت نفسه. وبدت علامات التململ على كل الجالسين فوق المقعد الخشبي، وظل الرجل ذو الذقن الجرداء يحملق في صاحب الوجه الأشبه بالجمجمة ثم لا يلبث أن يجفل مبتعداً عنه ثم يقترب منه ثانية تحت تأثير جاذبية لا تقاوم ثم يبتعد عنه مرة أخرى وقد تلبسه شعور بالذنب ولذلك فقد راح يتململ في جلسته. وأخيراً هبّ واقفاً وراح يمشي داخل الزنزانة بخطى مضطربة، ودس يده في جيبه ليخرج كسرة خبز قدمها على الفور إلى الرجل ذي الوجه الأشبه بالجمجمة وعلامات الارتباك واضحة عليه.
وعلى الفور انطلق زئير غاضب من شاشة الرصد يصم الآذان، فقفز الرجل ذو الأوداج المنتفخة والذقن الجرداء عائداً إلى مكانه في حين كان الرجل ذو الوجه الأشبه بالجمجمة قد سحب يده وراء ظهره وكأنه يريد أن يُري العالم كله أنه قد رفض الهدية.
فزأر الصوت: (بامستيد! بامستيد رقم 2713 دع كسرة الخبز تسقط على الأرض».
فأذعن الرجل للأمر وترك كسرة الخبز تسقط على الأرض. وصاح الصوت من الشاشة ثانية: «اثبت مكانك، وانظر نحو الباب ولا تأتِ بحركة».
وانصاع الرجل للأمر ثانية فيما كانت أوداجه ترتجف من الفزع. وفتح الباب وما إن دخل الضابط الشاب وانتحى جانباً حتى ظهر من ورائه حارس مكتنز القامة مفتول الذراعين عريض المنكبين. ووقف الحارس قبالة السجين ذي الوجه الأشبه بالجمجمة وما إن صدرت له الإشارة من الضابط حتى سدد لكمة، جمع فيها كل ما أوتي من عزم، لفم السجين، وكانت اللكمة من القوة بحيث طرحته أرضاً فسقط عند قاعدة المرحاض. وظل ممدداً لبضع لحظات فاقداً الوعي بينما كان فمه وأنفه ينزفان دماً داكناً. ولم يصدر عنه غير أنين أو صرير خافت بدا أنه لا يشعر بهما. ثم تدحرج حتى رفع نفسه عن الأرض وهو يترنح مستعيناً بيديه وركبتيه. ووسط دمه النازف ولعابه السائل رأى ونستون فكّي الرجل يرتطمان بالأرض.
وتسمّر السجناء الآخرون في الأرض وقد عقدوا أيديهم فوق ركبهم، وعاد الرجل ذو الأوداج المنتفخة إلى مكانه وقد تورم والتهب أحد صدغيه حتى أصبح أشبه بكتلة هلامية بلون الكرز مع فتحة سوداء في منتصفها. ومن حين لآخر كان الدم يقطر فوق سترته، بينما ظل ينقل عينيه الرماديتين بين وجوه السجناء يخامره شعور بالذنب أقوى من ذي قبل وكأنما كان يحاول أن يستشف مدى ازدراء الآخرين له بعد ما لحق به من إذلال جزاء فعلته.
وفُتح الباب من جديد، وأشار الضابط الشاب إشارة صغيرة إلى السجين ذي الوجه الأشبه بالجمجمة قائلاً؟
- إلى الغرفة 101.
وصدرت عن ونستون شهقة وبدا عليه الاضطراب. وكان السجين قد خرّ راكعاً على ركبتيه ولداه مضمومتان إلى صدره وراح يصرخ متضرعا:
أيها الرفيق! أيها الضابط! أضرع إليك ألا تأخذني إلى ذلك المكان. لقد اعترفت لكم بكل شيء، ماذا تريدون بعد؟ لم يعد لدي ما أعترف به. قل لي بماذا تريدونني أن أعترف وأنا مستعد للاعتراف فوراً، أو اكتب الاعتراف وسأوقع عليه في الحال! على أي شيء. لكن لا تذهبوا بي إلى الغرفة 101.
فعاد الضابط يكرر: «جرّوه إلى الغرفة 101».
ولاحظ ونستون أن وجه الرجل الذي كان شاحباً بالفعل قد انقلب وعلى نحو لا يصدق إلى اللون الأخضر.
وراح السجين يصيح متضرعاً: «افعلوا بي ما شئتم! لقد جوعتموني لأسابيع طويلة، اقتلوني. أطلقوا عليّ الرصاص. اشنقوني. اقضوا عليّ بالسجن خمساً وعشرين سنة. هل من أحد تريدون أن أشي به؟ فقط أشيروا لي من يكون، فأنا لا أبالي بمن سيكون هذا الشخص ولا بما ستفعلون به. إن لي زوجة وثلاثة أطفال أكبرهم لم يتجاوز السادسة، فلتذبحوهم أمام عيني وسأقف متفرجاً على ذلك، لكن لا تذهبوا بي إلى الغرفة 101!
فعاد الضابط يقول: «إلى الغرفة 101».
وتطلّع الرجل حواليه في جنون إلى بقية السجناء، وكأنه يود أن يختار ضحية أخرى بدلاً منه، واستقرت عيناه على الرجل ذي الأوداج المنتفخة ومد ذراعه المنحولة صائحاً:
«هذا هو الرجل الذي ينبغي أن تأخذوه! إنكم لم تسمعوا ما كان يقوله بعدما هشمت اللكمة أسنانه. امنحوني الفرصة وسأخبركم بكل كلمة نطق بها. إنه هو من يعادي الحزب ولست أنا». وتقدم الحارسان نحوه فتعالى صوته حتى صار أشبه بالعويل: «إنكم لم تسمعوا ما قاله، لقد لحق الصمم بشاشة الرصد آنذاك. إنه الرجل الذي يهمّكم، خذوه هو، ودعوني أنا!»
انحنى الحارسان ليجراه من ذراعيه، ولكنه كان في تلك اللحظة قد انبطح أرضاً وقبض بيديه على أحد القوائم الحديدية التي يرتكز عليها مقعد الزنزانة وراح يعوي كحيوان. أمسك به الحارسان لفك قبضته عن القائم الحديدي، لكنه كان يتشبث بقوة مذهلة. أما السجناء الآخرون فكانوا يجلسون في صمت وذعر وقد عقدوا أيديهم حول ركبهم وهم ينظرون شاخصين أمامهم. وتوقف العواء والعويل، ولم يعد لديه طاقة إلا على التشبث بالقائم الحديدي. وحينئذ دوت صرخة من نوع مختلف، لقد حطمت ضربة من حذاء أحد الحارسين أصابع إحدى يديه وبعدئذ أوقفاه على قدميه وراحا يجرجرانه إلى الخارج.
فقال الضابط: «إلى الغرفة 101».
وسار الرجل معهم وهو يترنح منكفئ الرأس ويمسك بيده المسحوقة وقد خارت جميع قواه.
مرّ وقت طويل، فاذا كان الوقت ليلاً حينما أخذوا صاحب الوجه الأشبه بالجمجمة، فقد غدا الوقت صباحا، ولو أنه كان صباحاً، لأضحى ظهراً. وبات ونستون وحيداً لساعات بعدما كان جميع السجناء قد غادروا الزنزانة. وكان الجلوس على المقعد الضيق يسبب له ألماً فكان ينهض من مكانه فيروح ويجيء في الزنزانة دون أن يسمع نهياً عن ذلك من الشاشة.
وكانت كسرة الخبز ما زالت حيث رمى بها الرجل ذو الأوداج المنتفخة. في البداية راودته نفسه أن يلتقطها لكنه كان يقاوم ذلك، أما الأن فقد عافها بعد أن اشتد عليه العطش وصار فمه لزجاً ونتن الرائحة. وكان صوت الطنين المستمر والضوء الأبيض الذي لا ينطفئ قد أصاباه بدوار نجم عن إحساسه بأن رأسه قد أصبح مجوفاً. وكان ينهض على قدميه كلما اشتد عليه ألم عظامه ثم لا يلبث أن يعاود الجلوس في الحال لأن الدوار كان يجعله غير واثق مما إذا كانت قدماه ستحملانه أم لا. وكان الذعر يستحوذ عليه كلما أمكنه السيطرة على إحساساته الجسدية، أما حينما يفكر في أوبراين وفي شفرة الحلاقة فكان يداعبه بصيص من الأمل. كان يعتقد أن الشفرة ربما تُهرّب إليه مخبأة في الطعام إن كانوا سيقدمون له طعاماً. ولم يكن يفكر في جوليا إلا عرضاً، فلا بد أنها تتعذب في مكان ما، وربما كان عذابها يفوق عذابه، بل لعلها تصرخ من الألم المبرح الذي يحيق بها في هذه اللحظة. وقال في نفسه: ترى لو أن مضاعفة ألمي كان فيها إنقاذا لجوليا، هل كنت أقبل بذلك؟ أجل كنت أقبل. لكن ذلك كان مجرد قرار صوري اتخذه لعلمه أن عليه أن يتخذه. لكنه لم يكن يحس به في قرارة نفسه. ففي هذا المقام لا يملك المرء أن يشعر بشيء سوى الألم أو انتظار الألم. ثم هل من الممكن حينما يكون المرء يتعذب فعلا أن يرغب، لأي سبب من الأسباب، في أن يزاد له في ألمه؟ لكنه لم يكن قد توصل إلى إجابة عن هذا السؤال بعد.
ومرة أخرى تناهت إلى سمعه وقع أقدام الحرس تقترب من الزنزانة. وفتح الباب، ودخل أوبراين.
وما إن رآه ونستون حتى هبّ واقفاً على قدميه. وكان وقع المفاجأة شديدا حتى أنه نسي كل حذر من شاشة الرصد بل نسي وجودها بالمرة وصاح:
- حتى أنت وقعت في قبضتهم أيضاً!
فقال أوبراين بشيء من التهكم: «لقد وقعت في قبضتهم منذ أمد طويل». وانتحى جانباً ليظهر خلفه حارس عريض المنكبين يمسك بهراوة طويلة سوداء في يده.
وقال أوبراين: «لقد كنت تعرف ما سيؤول إليه أمرك، فلا تخدع نفسك. لقد كنت دائماً تعرف ذلك».
لقد أدرك ونستون كل شيء الآن. لكن لم يعد ثمة فائدة ترجى من التفكير في ذلك. وفي هذه اللحظات لم يكن يرى من العالم إلا الهراوة التي بيد الحارس الذي قد يهوي بها على أي مكان في جسمه، على رأسه، أو صوان أذنه، أو على ذراعه، أو على مرفقه.

لكنه هوى بها على المرفق! فخر ونستون أرضاً على ركبتيه وكاد يفقد صوابه، وقد أمسك مرفقه بيده الأخرى، وتحول كل شيء في عينيه إلى اللون الأصفر. ولم يصدق أن ضربة واحدة يمكن أن تسبب له كل هذا الألم المبرح. أفاق قليلاً من الضربة فلاحظ أن الرجلين ينظران إليه بازدراء، وكان الحارس يضحك من جسده المتلوي. وهنا حضره الجواب عن ذلك السؤال وهو أن المرء لا يمكن أبداً ومهما كانت الأسباب أن يرغب في زيادة ألمه. فإزاء الألم لا يمكن للإنسان إلا أن يرغب في توقفه. فليس في العالم ما هو أسوأ من الألم الجسدي، وحيال الألم ليس هناك أبطال، ليس هناك أبطال. وظلت هذه الفكرة تدور في رأسه بينما كان يسقط أرضاً وهو يتلوى ألماً ويشدّ على ذراعه اليسرى التي جعلتها الضربة عاجزة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق